تعليق أعمال برنامج الأغذية العالمي يعني حرمان آلاف الأسر في اليمن من الإعانات التي تستند إليها للبقاء على قيد الحياة، وسط أزمة إنسانية تُعَد الأسوأ في العالم، علماً أنّ نحو 80 في المائة من اليمنيين في حاجة إلى مساعدات وحماية.
بعد مناشدات متكررة لبرنامج الأغذية العالمي طالب فيها الحوثيين بالسماح بتحديد قائمة المستفيدين من المساعدات، قرّر البرنامج التابع للأمم المتحدة أخيراً تعليق عمليات تقديم المساعدات الغذائية في مناطق البلاد الواقعة تحت سيطرة الحوثيين جزئياً. وعلى الرغم من أنّ القرار كان متوقعاً، فإنّ متابعين كثيرين للوضع الإنساني وصفوه بـ"الصادم". ويؤكّد الناشط الاجتماعي محمد المطري لـ"العربي الجديد" أنّ "أسراً يمنية فقيرة كثيرة سوف تتضرر من هذا القرار إذ إنّها سوف تُحرم من المساعدات التي يقدّمها برنامج الأغذية العالمي والمنظمات المحلية الشريكة والتي تعتمد كلياً عليها". ويطالب المطري القائمين على البرنامج "إيجاد حلول مناسبة تضمن وصول المساعدات إلى من يحتاجها في مناطق سيطرة الحوثيين"، قائلاً "صحيح أنّ جزءاً كبيراً من المساعدات يُسرق، لكنّ ذلك لا يجب أن يكون سبباً لمنع وصول الجزء الآخر إلى السكان". يضيف أنّ "المناطق الساحلية سوف تكون الأكثر تضرراً، فالفقر منتشر فيها بشكل كبير والأسر بمعظمها معدمة وتعيش من تلك المساعدات".
من جهته، يقول محمد ناجي، النازح من مدينة الحديدة منذ العام الماضي، إنّه لا يعلم كيف سوف يكون وضعه وأسرته "بعد اعتمادنا طوال الأعوام السابقة على مساعدات البرنامج، في غذائنا، علماً أنّنا كنا نبيع جزءاً منه للحصول على غاز الطبخ وتوفير بعض من بدل إيجار منزلنا الصغير في صنعاء". يضيف لـ"العربي الجديد": "نشعر اليوم بخطر طردنا من المنزل". ويؤكد ناجي أنّه "عندما سمعت خبر توقف مساعدة البرنامج، شعرت بالقلق نفسه الذي قد يشعر به شخص عند توقّف عمل المؤسسة التي يشتغل بها... فالأمر يعني توقّف مصدر رزقه ورزق أبنائه". ويلفت إلى أنّ سبب اتكاله على مساعدات البرنامج هو "عدم عثوري على عمل يساعدني في كسب العيش في صنعاء. وفي حال وُفّقت بشيء ما من وقت إلى آخر، فيكون غالباً بمقابل زهيد لا يلبّي احتياجات أسرتي".
في السياق، يؤكّد مصدر مطّلع في إحدى المنظمات الأممية في اليمن، لـ"العربي الجديد" أنّ "فريقاً عاملاً في المركز الرئيسي لبرنامج الأغذية العالمي في روما وصل إلى صنعاء بعد التهديد الذي أطلقه المدير التنفيذي للبرنامج ديفيد بيزلي بتعليق المساعدات بداية الأسبوع الفائت". يضيف أنّ "الفريق الأممي المؤلّف من خمسة أشخاص التقى بقيادات حوثية، إلا أنّه فشل في الضغط لإيجاد آلية يصرّ البرنامج على استخدامها، أبرزها بصمة العين للتثبّت من هوية المستفيدين في أثناء استلامهم المساعدات". ويشير المصدر نفسه إلى أنّ "الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية ومواجهة الكوارث (النمشا) التي أنشأها الحوثيون أخيراً هدّدت الفريق بالكشف عن الاتفاق السابق بينهما، والذي كانت تلك الهيئة بموجبه تحدّد المستفيدين في مقابل قيام البرنامج ومنظماته المنفّذة بالتحقق بما نسبته 30 في المائة من قائمة المستفيدين عشوائياً".
ويوضح المصدر أنّ "فريق التفاوض سوف يستمر في تفاوضه مع الحوثيين في صنعاء في خلال الفترة المقبلة أملاً بإحداث تقدّم جديد ينقذ حياة ملايين الذين يعَدّون الضحية الأولى للتلاعب بالمساعدات وقرار التعليق الجزئي الأخير"، لافتاً إلى أنّ قرار تعليق الأعمال "سوف يؤدّي غالباً إلى توجيه الموظفين الأساسيين في مكتب برنامج الأغذية العالمي في مناطق سيطرة الحوثيين للعمل من منازلهم بالإضافة إلى تسريح عدد كبير من العاملين بعقود مؤقّتة بعد تحويل مستحقاتهم. ويأتي ذلك بعدما أطلق البرنامج في الفترة الماضية عملية توظيف ضخمة وفقاً لخطة عمل جديدة فشلت بسبب المستجدات الأخيرة".
والبرنامج بحسب المصدر نفسه "لم يعلن عن أيّ خطة حول جدول تعليق المساعدات تدريجياً، وذلك مؤشّر إلى أنّ منسقة الشؤون الإنسانية في اليمن ليز غراندي التي كانت قد كثّفت في خلال الأسبوعَين الماضيَين اجتماعاتها بقيادات الحوثيين، سوف تبدأ جولة جديدة من المفاوضات قريباً بمعيّة مسؤولي البرنامج الآتين من روما". ويتحدّث المصدر عن "حرب إعلامية يعدّ لها الحوثيون ضد البرنامج"، شارحاً أنّهم "بدأوا في نهاية الأسبوع الماضي يتواصلون مع موظفين محليين محددين في أكثر من 20 منظمة محلية ودولية تنفّذ نشاطات مدعومة من برنامج الأغذية العالمي، ويلتقون معهم في خارج منظماتهم بهدف الحصول على كل ما يمكن أن يدين البرنامج بالفساد أو الإهمال". ويتابع أنّ "نتائج ما يحضّرون له سوف تبدأ بالظهور قريباً على شكل حملة إعلامية مكثفة تأتي بالتوازي مع ردود فعل دولية متوقعة ضدّ ممارسات الحوثيين". ويعبّر المصدر نفسه عن خيبة أمله من المستجدات الأخيرة، قائلاً إنّ "البرنامج ظلّ صامتاً تماماً طوال الأعوام الماضية إلا أنّ الضغوط والشروط المستمرة والمتزايدة التي يواجهها، جعلت التصادم بين الجهتَين أمراً لا مناص منه". ولا يتوقّع المصدر أن "يخلص البرنامج إلى أيّ تنازلات عن مطالبه بتحديد المستفيدين منه والتثبّت منهم بحسب الأنظمة التي يطالب بها".
وكان برنامج الأغذية العالمي قد وصف تعليق نشاطه جزئياً في مناطق سيطرة الحوثيين بـ"الحل الأخير"، بعد توقّف مفاوضات مطوّلة حول الاتفاق على وضع ضوابط لمنع تحويل مسار الأغذية بعيداً عن الفئات الأشدّ احتياجاً في اليمن، بحسب ما جاء في بيان أصدره يوم الخميس الماضي. أضاف البيان أنّ توفير الغذاء للأطفال والنساء والرجال الأشدّ معاناة من الجوع في اليمن يأتي في مقدّمة أولويات البرنامج، لافتاً إلى أنّه "كما هي الحال في أيّ منطقة نزاع، يسعى بعض الأفراد إلى التربّح على حساب المحتاجين وتحويل مسار الأغذية بعيداً عن الأماكن التي تكون في أمس الحاجة إليها". وتابع البيان أنّ البرنامج "يسعى إلى الحصول على الدعم من سلطات صنعاء من أجل إدخال نظام التسجيل البيومتري للمستفيدين (نظام البصمة البيولوجية) الذي من شأنه أن يحول دون التلاعب بالأغذية ويحمي الأسر اليمنية التي يخدمها البرنامج ويضمن وصول الغذاء إلى من هم في أمسّ الحاجة إليه".
وأكّد البيان ذاته أنّ المفاوضات التي جرت في السياق، لم تتوصّل إلى أيّ اتفاق، مشدداً على أنّ نزاهة عمليات البرنامج صارت مهددة وعلى أنّ "مسؤوليتنا تجاه من نساعدهم صارت مقيّدة". وأكمل: "لقد ناشد برنامج الأغذية العالمي مراراً وتكراراً سلطات صنعاء أن تمنحنا المساحة والحرية للعمل وفقاً لمبادئ الإنسانية والحيادية والنزاهة والاستقلال التشغيلي التي نعمل على أساسها في 83 بلداً حول العالم". وأشار البيان إلى أنّه على الرغم من استمرار الخلاف بين الحوثيين وبرنامج الأغذية العالمي، فإنّ الأخير أكّد استمرار المفاوضات بهدف "الحصول على تعاون سلطات صنعاء، وسوف نبقى متفائلين بإمكانية التوصل إلى حل للمضيّ قدماً". وشدّد: "نحن على أتمّ استعداد لاستئناف عمليات توزيع الأغذية على الفور بمجرّد توصّلنا إلى اتفاق بشأن وضع نظام مستقل لتحديد هوية المستفيدين وإطلاق نظام التسجيل البيومتري"، موضحاً أنّ قرار تعليق المساعدات بالنسبة إليه "سوف يؤثّر على نحو 850 ألف شخص". يُذكر أنّ البرنامج بحسب ما جاء في البيان "سوف يستمر في تقديم مساعداته الغذائية للأطفال والحوامل والمرضعات الذين يعانون من سوء التغذية طوال فترة التعليق".
في السياق، يقول عبد الله الحبابي، وهو من المهتمين بالوضع الإنساني في اليمن، لـ"العربي الجديد" إنّ "الحوثيين يسعون إلى السيطرة الكاملة على المنظمات. وقد عمدوا إلى طرد المسؤول السابق للهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية ومواجهة الكوارث (النمشا) التابعة لهم قبل أكثر من شهر وتعيين شخص آخر بدلاً منه، على خلفية موافقة الأوّل على طلب لبرنامج الأغذية العالمي". يضيف الحبابي أنّ "ما استجدّ أخيراً مع البرنامج نتيجة طبيعية لطول أمد وتزايد شروط الحوثيين وقبول المنظمات تعرّضهم للابتزاز طوال الأعوام الماضية"، مشيراً إلى أنّ "منظمات أممية ودولية أخرى سوف تلي برنامج الأغذية العالمي في الثورة ضد الابتزاز وسوء استغلال المساعدات".
ويتابع الحبابي أنّ "تعليق مساعدات البرنامج يعني تفاقم المجاعة ودفع أرقام المتضررين إلى مستويات قياسية قريباً"، غير أنّه يستبعد "قيام مجموعة الغذاء والزراعة التي يشارك فيها البرنامج، بمسح ميداني لقياس عدد أشدّ الناس احتياجاً للمساعدات الغذائية والمهددين بالمجاعة، علماً أنّ عددهم تجاوز 11 مليون شخص قبل عام". ويكمل الحبابي أنّ "تعليق أعمال البرنامج يهدد عمل عشرين منظمة دولية ومحلية، في حين يوظّف الحوثيون هذه الأزمة حتى يثبتوا لبقية المنظمات أنّهم لا يلينون في شروطهم حتى لو كان ثمن ذلك وقف كل أعمالها وتفاقم معاناة اليمنيين".
من جهتها، دعت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً برنامج الأغذية العالمي والمنظمات الدولية الأخرى إلى البحث عن آليات وتدابير تضمن إيصال المساعدات إلى محتاجيها. وبحسب وكالة الأنباء اليمنية "سبأ"، فإنّ الحكومة أبدت استعدادها لتشجيع "اتخاذ أيّ وسائل تعمل على الوصول السريع إلى المحتاجين وتقدّم كل الدعم والتسهيلات لعمل المنظمات الإغاثية والدولية في اليمن"، محمّلة الحوثيين "المسؤولية الكاملة عن الآثار المترتبة عن التعليق الجزئي لعمليات المساعدات الغذائية من قبل برنامج الأغذية العالمي". تجدر الإشارة إلى أنّ البرنامج يُعَدّ أكبر لاعب إغاثي في اليمن، فهو خصّص 1.2 مليار دولار أميركي في العام الماضي لدعم الفقراء بالغذاء والمساعدات المالية غير المشروطة مع تقديم الغذاء للأمهات الحوامل والأطفال دون الخامسة المصابين بسوء التغذية المتوسط.