أميركا متهمة بخلق الربيع.. وإجهاضه

16 ديسمبر 2014
هيلاري كلينتون تحتفي بالمنصف المرزوقي (GETTY)
+ الخط -


في الخامس من يناير/ كانون الثاني 2011، كان قد مرّ على حادثة إحراق التونسي محمد بو عزيزي لنفسه ما يقارب الثلاثة أسابيع، وكان هناك طرفان في واشنطن يرقبان المشهد، ويعلقان عليه: الطرف الأول رسمي يمثل الحكومة الأميركية، والطرف الثاني غير رسمي يمثل المتابعين المستقلين وقادة الرأي في الجامعات ومراكز الأبحاث، وكانت النظرتان مختلفتين.


في ذلك اليوم كانت مظاهرات تونس صاخبة، وكان الموقف الأميركي الرسمي محل تساؤل من جانب الصحفيين في المؤتمر الصحفي اليومي للخارجية الأميركية، لكن المتحدث حينها باسم الخارجية فيليب جيه كرولي، عندما سئل: هل لديكم أي ردة فعل بالنسبة للاضطرابات في تونس؟ أجاب: "إن هذه الأحداث فجّرتها الهواجس الاقتصادية ولم تكن موجهة ضد الغربيين أو المصالح الغربية"، وعقّب الصحفي متسائلاً: لكن، أليست لديكم هواجس حول الإصلاحات الاقتصادية في تونس؟ أجاب المتحدث كرولي: "هذا شيء يشكل جزءاً من حوارنا الجاري مع تونس".

من هنا يمكن القول إنه حتى ذلك الحين كانت الحكومة الأميركية يعتريها القلق فقط أن تكون المظاهرات موجهة ضد المصالح الغربية، وتعتقد أن المسألة مجرد مطالب اقتصادية، وأن الحوار مع نظام بن علي سيظل مستمراً لإقناع النظام بتلبية تلك المطالب.

في المقابل، وخارج سياق الرأي الحكومي الذي لا يرى إلا ما تحت قدميه، كان الباحث الأميركي والأستاذ في جامعة جورج واشنطن، مارك لينتش، عاكفاً على كتابة مقال لمجلة السياسة الخارجية اختار له عنواناً مثيراً هو "ربيع أوباما العربي"، ونشرته المجلة اليوم التالي مباشرة لمؤتمر كرولي الصحفي. ربما كان مارك لينتش أول أميركي يستخدم مصطلح "الربيع العربي".

كان مارك لينتش يمثل التفكير الحر غير المقيد بسياسات الحكومة، فكان أكثر إدراكاً من المتحدث باسم الخارجية الأميركية، وحتى لا نظلم مسؤولي الخارجية في تقديراتهم، تجدر الإشارة إلى أنه في العام 2005 كان في الخارجية الأميركية من اعتبر ذلك العام ربيعاً عربياً، ولكن من زاوية أخرى عندما كانت إدارة الرئيس الأميركي في ذلك الوقت جورج بوش تروج للديمقراطية في العالم العربي.

أي أن المصطلح كان حاضراً في ذهن صنّاع السياسة الخارجية الأميركية، وإن كان له معنى مختلف في عهد بوش عن معناه في عهد أوباما.
لكن كثيراً من الأميركيين في العهدين كانت لديهم توقعات مشوبة بالتمني بأنهم سيرون "صحوة كبرى" للمطالبة بالحرية في الشرق الأوسط في نهاية المطاف، وفقاً لتعبير وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي كانت من أكثر المسؤولين الأميركيين حماسة لدعم التغيير في العالم العربي، لكنها كبقية الأميركيين لم تكن تعرف متى تنطلق الشرارة، ولم تتوقع أبداً أن تكون الشرارة من تونس الهادئة.

لهذا أشادت كلينتون في منتصف مارس/آذار 2011 بمحمد بو عزيزي، معتبرة أن انتحاره كان الشرارة المنتظرة، وكانت ثورة تونس "مجرد بداية".

وفي الوقت الذي كانت فيه سيناريوهات إصلاح العالم العربي في عهد بوش نابعة من مبادرات خارجية من الولايات المتحدة ودول أوروبية، غير أنها في عهد أوباما لم تكن كذلك، إذ أن أوباما نفسه فوجئ بها واضطر للتعامل معها، ويعبر عن ذلك بنفسه في إحدى خطاباته قبل منتصف 2011 عندما قال: "أميركا لم تدفع الناس إلى شوارع تونس والقاهرة، بل الشعوب نفسها هي التي أطلقت هذه الحركات، والناس أنفسهم هم الذين يتعين أن يقرروا نتائجها".

وكان أوباما قد بدأ يظهر ميله لتأييد الربيع العربي منذ الحادي عشر من فبراير/شباط 2011 بتأثير من ثورة يناير المصرية، عقب إعلان استقالة الرئيس السابق حسني مبارك، حيث اعتبر أوباما أن "الشعب المصري ألهم العالم بكفاحه السلمي من أجل تغيير نظام الحكم في بلاده، ولن تعود مصر إلى ما كانت عليه أبداً".


بعد ذلك بدأت وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون تجاهر بما كانت تتمناه، وأصبح يتحقق في دول الربيع العربي، حيث طالبت أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في 28 فبراير/شباط 2011، سويسرا بمحاسبة العقيد القذافي والمحيطين به، وأكدت أن من حق الليبيين أن يطالبوا بحريتهم، كما فعل إخوانهم في تونس ومصر.

ويبقى السؤال المطروح: أي دور لعبته الولايات المتحدة أو كانت تخطط للعبه، ولماذا فترت حماستها لاحقاً في دعم التغيير في دول الربيع العربي؟
للإجابة على السؤال لا بد من التسليم أن الولايات المتحدة كغيرها يهمها قبل كل شيء مصالحها، والفرق الجوهري في ما طرحه باراك أوباما، وما كانت تطرحه وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون، أن أوباما يتحدث عن الصراع بين المصلحة والمبادئ، ويزعم أنه يتحتم ترجيح المبادئ على المصالح، أما هيلاري كلينتون فكانت تصر على الاعتراف بالمصلحة، وأن مصلحة الولايات المتحدة تكمن في استقرار المنطقة وازدهارها، وأن هذا الاستقرار المنشود لا يمكن أن يتم بدون وجود ديمقراطية، وحكم رشيد وتوفير المطالب الأساسية للشعوب.

ويدرك أوباما وكلينتون أن السياسات الجوهرية لأميركا في الشرق الأوسط، قائمة على مكافحة الإرهاب ووقف انتشار الاسلحة النووية؛ والذود عن أمن إسرائيل، والشيء الإيجابي في ذلك أن الولايات المتحدة أدركت أخيراً أن مصالحها لا يمكن الحفاظ عليها مع مجافاة آمال الشعوب.
لذلك اقتنص أوباما فرصة إظهار أن أميركا تثمن كرامة محمد بو عزيزي أكثر من تثمينها لطاغية متسلط. ولأن الولايات المتحدة تعتبر تونس في طليعة موجة الديمقراطية، ومصر شريكاً طويل العهد وكبرى بلدان العالم العربي. فقد دعمت التحول فيها مثلما دعمت تغيير أنظمة واجهت شعوبها بالعنف في ليبيا وسورية.

الواقع يؤكد في نهاية المطاف أن الولايات المتحدة تتعامل مع الأحداث ولا تصنعها، ومن يصر على أنها صانعة الربيع العربي، فعليه أن يفسر المصاعب التي تواجه هذا الربيع. ومن يعتقد أن الولايات المتحدة هي صانعة الثورات المضادة، فعليه أن يفسر على نحو دقيق أسباب العداء بين الأنظمة الانقلابية وبين الدولة العظمى.