كارثة نوريلسك... القطب الشمالي ضحية تسرّب نفطي روسي

08 يونيو 2020
عملية جمع صعبة للديزل تولتها وزارة الطوارئ(إيرينا يارينسكايا/فرانس برس)
+ الخط -
حادثتان كبيرتان مرتبطتان بقطاعي النفط والطاقة وقعتا في شمال روسيا، خلال الأيام الأخيرة، ما دفع إلى الاستعانة بالحكومة الفيدرالية والقوات المسلحة، لتدارك آثار بيئية خطيرة قد تمتد لعقود

تتواصل في مدينة نوريلسك، الواقعة في إقليم كراسنويارسك، شمالي سيبيريا، في روسيا، أعمال جمع التسرب غير المسبوق لمنتجات النفط، والمقدر بأكثر من 20 ألف طن، نتيجة لانخفاض الضغط بخزان ضخم في محطة توليد الطاقة الحرارية المملوكة لشركة "نورنيكل" العملاقة، مما دفع بالمدافعين عن قضايا البيئة إلى التحذير من خطورة ذلك، وسط تصنيف الحادثة كأكبر كارثة بيئية في منطقة القطب الشمالي.

وما يزيد من صعوبة عملية جمع المواد المسربة، احتياج أفراد الطوارئ إلى معدات إضافية، لكن مع تعذّر نقلها إلى مناطق التندرا (المساحات الجرداء القريبة من القطب الشمالي) إلاّ على متن مروحيات، فيما جرت زيادة عدد الأفراد المشاركين في عملية إزالة تداعيات الكارثة إلى نحو 500 تساعدهم في عملهم ظاهرة النهار القطبي الذي يتيح لهم العمل تحت ضوء الشمس على مدار الساعات الأربع والعشرين تقريباً.



عواقب بيئية وخيمة
لإدراك نطاق الكارثة، يكفي النظر إلى الصور التي أوردتها مؤسسة الفضاء الروسية "روس كوسموس"، على حسابها على "تويتر"، وتظهر خطوطا قرمزية على امتداد مجرى نهر ملوث. وتكمن خطورة الكارثة في أنّ نهر بياسنا الذي تسربت إليه المواد السامة، يصب في بحر كارسك، مما يشكل تهديداً للمنظومة البيئية في المياه والساحل على حد سواء، وفق ما يوضحه المشرف على مشروع المناخ بمنظمة "غرينبيس" في روسيا، فاسيلي يابلوكوف، مشيراً إلى أنّ حادثة تسرب المنتجات النفطية في نوريلسك هي أكبر كارثة بيئية خلف الدائرة القطبية الشمالية في التاريخ، ومحذراً من عواقب وخيمة على الكائنات الحية في المنطقة. ويقول يابلوكوف، لـ"العربي الجديد": "في الوقت الحالي، يجري العمل على إزالة تداعيات الكارثة، لكن على الرغم من ورود بيانات متضاربة، فقد بات واضحاً أنّها كارثة كبرى، خصوصاً أنّ التسرب قد يصل إلى بحر كارسك". وحول تقييمه للتداعيات البيئية طويلة الأجل للكارثة، يضيف: "يعتبر الوقود الديزل ساماً جداً للكائنات الحية، وينذر وصوله إلى البحر بالقضاء على النباتات والكائنات البحرية كافة في المنطقة، مع تلويث الساحل لسنوات طويلة، مما سيؤثر بدوره سلباً على الطيور والثدييات مثل غزلان الرنة التي تعيش في شبه جزيرة تايميار، لتصبح المنطقة غير ملائمة للحياة البرية لعشرات السنين".



وبخصوص الخسائر البيئية، قدرت الهيئة الفيدرالية الروسية لحماية البيئة "روس بريرود نادزور" الفترة اللازمة لاستعادة المنظومة البيئية للمنطقة المنكوبة بما لا يقل عن عشر سنوات، بينما يشير يابلوكوف إلى أن تجارب الكوارث البيئية السابقة تظهر أنّ حتى مثل هذه الفترة غير كافية للتعافي التام لبيئة المناطق المتضررة.

وبالرغم من أنّ خطة وزارة الطوارئ الروسية تقتضي الانتهاء من إزالة التسرب النفطي في ظرف أسبوعين، فالمعنيون بشؤون حماية البيئة يشككون في واقعية هذه الخطة في حال استمرت أعمال الإزالة بنفس الوتيرة الحالية، إذ قدّر مدير الفرع الإقليمي لحزب "الخضر" في إقليم كراسنويارسك، سيرغي شاخماتوف، مدة إزالة التسرب بنحو 160 يوماً. وكتب شاخماتوف في منشور له بعد عمل خبراء البيئة في نوريلسك لمدة يومين: "بحسب تقديرات الخبراء، فإنّ نحو 50 في المائة من وقود الديزل المسكوب (10 آلاف طن تقريباً) تسرب إلى أحواض مائية، ويقدّر رجال الإنقاذ المدة المطلوبة لجمعه بـ14 يوماً. لكن، في حال استمر الجمع بالوتيرة الحالية، فالمطلوب نحو 160 يوماً (نحو 23 أسبوعاً) لا أسبوعين كما تزعم السلطات".



ومن جانبها، أعلنت لجنة التحقيق الفيدرالية الروسية، وهي التي تتولى القضايا الجنائية الكبيرة عادة، على مستوى الدولة، أنّها أطلقت ثلاثة تحقيقات جنائية حول الحادثة، كما احتجزت موظفاً في محطة الطاقة.

أسباب الكارثة
وبحسب أرقام أوردتها صحيفة "فيدوموستي" الروسية، فإن رسملة "نورنيكل" سجلت خلال أسبوع على الحادثة تراجعاً بنسبة 4.4 في المائة في بورصة لندن، وبنسبة 6.5 في المائة في بورصة موسكو، إلى نحو 47 مليار دولار.

وبعد وقوع حادثة التسرب، أثيرت تساؤلات كثيرة حول أسبابها، وقد وجّه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال اجتماع، عبر الفيديو، تأنيباً إلى المالك الرئيسي لشركة "نورنيكل"، فلاديمير بوتانين، لتخاذل الشركة في تغيير خزانات المحطة، مما كان سيتيح تجنب الخسائر البيئية والاقتصادية. ورد بوتانين على ذلك بتأكيده أنّ شركته ستتحمل كافة النفقات اللازمة لإزالة تداعيات الحادثة والمقدرة بنحو 150 مليون دولار أميركي، وذلك باستخدام أفضل تكنولوجيا متوفرة، بالإضافة إلى دفع أيّ غرامات عن الأضرار البيئية. كذلك، أرجع بوتانين الذي تصنفه مجلة "فوربس" العالمية كأثرى أثرياء روسيا بثروة إجمالية تقارب 25.5 مليار دولار في عام 2020، حدوث الحالة الطارئة إلى ذوبان الجليد الأبدي في مناطق أقصى الشمال، وهي رواية حظيت بتأييد بعض الخبراء في شؤون البيئة. مع ذلك، يعزو يابلوكوف أسباب الحادثة إلى مجموعة متكاملة من العوامل البشرية والبيئية، قائلاً: "أولاً، كان تشغيل المحطة يجري بشكل غير مسؤول في ظروف الجليد الأبدي، وهذا عامل بشري. ثانياً، تتسم منظومة الرقابة البيئية في روسيا بشيء من عدم الفاعلية، إذ يتعذر إجراء مراجعات غير دورية للمنشآت إلاّ بالتنسيق مع النيابة العامة الفيدرالية. ثالثاً، هناك عوامل بيئية متعلقة بأنّ وتيرة الاحتباس الحراري في منطقة القطب الشمالي أعلى منها في المناطق الأخرى من العالم، وقد ازدادت بمقدار ثلاث درجات مئوية في المتوسط مقارنة بالقرن العشرين". ويخلص إلى أنّ الاحتباس الحراري الذي يؤدي إلى انهيار التربة وتدمير البنية التحتية، يجب أن يدفع البشر إلى إعادة النظر في خططهم استثمار منطقة القطب الشمالي الذي لم يعد آمناً من الناحية البيئية، أو مجدياً من الناحية الاقتصادية، على حدّ سواء.



من جهته، يأمل رئيس المنظمة المجتمعية "بيتنا مدينة نوريلسك" رسلان عبداللييف، في التحقق من الأسباب الموضوعية للكارثة، بما لا يقتصر على تبرير التخاذل وعدم احترافية السلطات المحلية في إدارة الأزمة. وفي معرض تعليقه على الحادثة، يقول عبداللييف، في اتصال مع "العربي الجديد": "أعتقد أنّه حان الوقت لتعامل السلطات الفدرالية بشكل منهجي مع مدينة نوريلسك وشركة نورنيكل، فتسرب الوقود الديزل هو مجرد قمة الجبل الجليدي التي تجري مناقشتها، والنقطة الرئيسية فيها أنّه لم يتم اتخاذ إجراءات إزالة تداعيات الكارثة مبكراً". ومن المعروف أنّ محطة الطاقة هذه أحد أقسام مجموعة "نورنيكل" التي حولت مصانعها العملاقة منطقة نوريلسك إلى إحدى أكثر المناطق تلوثاً في العالم.

تستر على الحوادث
وقعت كارثة نوريلسك في 29 مايو/أيار الماضي، حين أسفر انهيار الساحة الخرسانية وتدمير الخزان عن سكب نحو 20 ألف طن من منتجات النفط في الطريق المؤدي إلى محطة توليد الطاقة، لتتسرب المواد السامة إلى نهرين وبحيرة توفر المياه للسكان المحليين. مع ذلك، لم تفرض السلطات المحلية حالة الطوارئ على نطاق إقليمي إلاّ بعد مرور يومين، بينما وجه بوتين يوم الأربعاء الماضي انتقادات إلى حاكم إقليم كراسنويارسك، ألكسندر أوس، لسوء اطلاعه على الوضع، والأخير اعترف بأنّه علم بالحادثة من شبكات التواصل الاجتماعي. كذلك، أمر بوتين بفرض حالة الطوارئ من مستوى فيدرالي في نوريلسك، مما أتاح الاستعانة بالقوات الفيدرالية لإزالة تداعيات الكارثة. وبحلول صباح 4 يونيو/حزيران الجاري، تمكن أفراد الطوارئ من السيطرة على البقعة النفطية في محيط المحطة، وقد تم سحب أكثر من ألف متر مكعب من التربة الملوثة. ووضعت حواجز طافية عبر النهر للحيلولة دون تسرب الوقود النفطي إلى مجرى بحيرة تغذي نهراً آخر يؤدي إلى المحيط المتجمد الشمالي الهش بيئياً.

وبالتزامن مع ذلك، تواصلت في مقاطعة إركوتسك الواقعة في سيبيريا أيضاً أعمال إطفاء بحقل تابع لـ"شركة إركوتسك للنفط"، بينما تشير تقارير إعلامية إلى أنّ الحريق اندلع يوم 30 مايو/أيار الماضي، لكن لم يكشف عنه لمدة أسبوع كامل تقريباً. وبحسب صحيفة "إزفيستيا" الروسية، فإنّ الحريق نجم عن انخفاض الضغط بالخرطوم الرابط، وانبعاث مزيج النفط والغاز، وقد تمت السيطرة على الحريق ولا تهديدات للبلدات السكنية والغابات المحيطة. وقالت الشركة إنّها طلبت من الجيش قصف رأس البئر بالمدفعية المضادة للدبابات لإخماده الذي من المقرر أن يكتمل اليوم الإثنين. وقال مسؤولون إنّ الحريق لم يسفر عن إصابة أحد ولم يشكل تهديداً للغابات القريبة، كما تقع أقرب قرية على بعد 100 كيلومتر من موقعه.



وتشير صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، إلى أنّ الاتحاد السوفييتي السابق، استخدم قدراته النووية في إخماد حرائق غاز ونفط، وذلك في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وتجربة التفجير النووية الأولى في هذا المجال، جرت عام 1966، لإطفاء حريق غاز تحت الأرض، استمر ثلاث سنوات في حقل أورتابولاك، في أوزبكستان التي كانت يومها جزءاً من الاتحاد.
ولعلّ تكرار التستر على الحوادث، هو ما دفع الهيئة الفيدرالية الروسية لحماية البيئة "روس بريرود نادزور" إلى الإعلان عن خطتها مراجعة جميع المنشآت الصناعية الكبرى قبل نهاية العام الجاري، لتقييم مخاطر وقوع كوارث بيئية.
دلالات
المساهمون