حرائق العراق... حقول زراعية تحت رحمة "مخرّبين"

14 مايو 2020
لن يحصد قمحه إذ التهمته النيران (فرانس برس)
+ الخط -

يستعيد العراق في هذه الأيام ما عاناه في مايو/ أيار من العام الماضي عندما اشتعلت الحقول وأتلفت النيران محاصيل زراعية في مناطق متعددة من البلاد، مخلّفة خسائر كبرى.

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، اندلعت حرائق عدّة في حقول زراعية وبساتين في العراق، وها هي تتكرّر اليوم بالتزامن في حين ينتعش القطاع الزراعي بفعل إغلاق الحدود ووقف الاستيراد اللذَين دفعا في اتجاه الاعتماد على الإنتاج المحلي. والفلاحون تشجّعوا أخيراً على العودة إلى الزراعة والإنتاج نظراً إلى جدواهما المالية عليهم، بخلاف السابق عندما كان الاستيراد يحاربهم.

والحرائق التي لم تكن مألوفة بين مزارعي العراق قبل سنوات، تسبّبت بخسائر كبيرة لهم في العام الماضي، إذ طاولت آلاف الهكتارات الزراعية، علماً أنّ الحكومة لم تفِ بعد بوعودها لتعويضهم. وتأتي الحرائق الأخيرة بعد إعلانات رسمية حول بدء الاكتفاء من بعض المنتجات وعدم الحاجة إلى استيرادها، مثل الطماطم والبطاطس وأصناف من الفواكه فضلاً عن القمح والشعير، الذي سجّل أرقاماً قياسية قاربت خمسة ملايين طنّ، بشكل يضع العراق على مقربة من الاكتفاء الذاتي. والحرائق التي طاولت خصوصاً حقول قمح وشعير توزّعت في محافظات نينوى وكركوك وديالى والأنبار وصلاح الدين والنجف وواسط، فيما سُجّلت أخرى في ديالى وصلاح الدين، وشملت عشرات بساتين الحمضيات والنخيل خصوصاً. يُذكر أنّ وزارة الزراعة العراقية كانت قد أفادت سابقاً بأنّها تنسّق مع القوى الأمنية والأجهزة المختصة في المحافظات من أجل توفير المتطلبات اللازمة لحماية الحقول من عمليات الحرق والعبث.

وكانت النائبة في البرلمان العراقي، ناهدة الدايني، قد صرّحت بأنّ حوادث الحرق متعمّدة وتُعَدّ تخريباً اقتصادياً سياسياً، محمّلة في بيان لها نقلته وسائل إعلام محلية عراقية، يوم الإثنين الماضي، "الأجهزة الأمنية مسؤولية الحرائق لغياب الإجراءات الرادعة وضعف التحوطات الكفيلة بتأمين وحماية الحقول الزراعية من عبث المخربين". ورأت الدايني أنّ "حوادث حرق المحاصيل ليست إرهابية بل تقف وراءها جهات مدفوع ثمن أفعالها ومرتبطة بأجندات وجهات إقليمية تسعى للهيمنة على الاقتصاد العراقي"، مضيفة أنّ "تلك الحرائق تسبّبت بخسائر فادحة للمزارعين"، ومطالبةً بـ"تعويض المزارعين المتضررين من جرّاء الحرائق المنظمة".

وفقاً لوزارة الزراعة العراقية، فإنّ الحرائق التي تتواصل منذ بداية مايو/ أيار الجاري، أتت على أربعة في المائة من مجموع المساحات المزروعة، مشيرة إلى أنّها شكّلت غرفة عمليات في كلّ المحافظات لمتابعة ملف الحرائق والتنسيق مع وزارة الداخلية إلى جانب وضع خطة حصاد وتسويق سريعة. من جهتها، أعلنت مديرية الدفاع المدني عن إطلاق خطة من ثلاثة محاور للحفاظ على محصولَي القمح والشعير من الحرائق، مؤكدة إشراك فرق الدفاع من الوسط والجنوب من ضمن مديريات دفاع الموصل وصلاح الدين وكركوك للمساندة. وقال المتحدث باسم الدفاع المدني العراقي العقيد جودت عبد الرحمن إنّ المحور الأوّل استباقي توعوي يتمثّل بإرشادات الدفاع المدني عن كيفية استخدام المطافئ وخزانات المياه القريبة من المحاصيل الزراعية والتدخّل بشكل أوّلي في حال حصول حريق إلى حين وصول فرق الدفاع المدني. أضاف عبد الرحمن في بيان صحافي، أنّ المحور الثاني يشمل إشراك فرق إطفاء محافظات الوسط والجنوب لإسناد مديريات نينوى وصلاح الدين وكركوك لامتلاكها مساحات واسعة وشاسعة من محصولَي القمح والشعير من ضمن خطة انتشار الفرق بالقرب من المحاصيل الزراعية، والمحور الثالث العمل على متابعة محصولَي القمح والشعير حتى وصولهما إلى المخازن للحفاظ على المحصولَين كونهما يدخلان في غذاء الشعب العراقي.



آخر الحرائق نشبت في مساحات كبيرة من البساتين والمزارع في مناطق عدّة من محافظة ديالى (شرق)، متسبّبة في أضرار كبيرة بمئات الهكتارات من الأراضي المزروعة بالقمح والشعير، فضلاً عن مساحات أخرى من البساتين المزروعة بأشجار النخيل والفاكهة. وفي تصريحات صحافية، أفادت السلطات المحلية في محافظة ديالى بأنّ أضرار الحرائق في حقول القمح بلغت 40 في المائة من المساحات التي طاولها الحريق. وتوجّه أصابع الاتهام في ما يتعلق بافتعال تلك الحرائق إلى جهتَين مسلحتَين، فقسم من أهالي المحافظة ومعه الجهات الرسمية يتّهمان خلايا تابعة لتنظيم داعش بالوقوف وراء الحرائق، أمّا القسم الآخر فيتّهم المليشيات المسلحة. وفي حديث أدلى به أمام الصحافة المحلية، قال محافظ ديالى مثنى التميمي إنّ "الحرائق الأخيرة لحقول الحنطة في ديالى، بعضها غير مفتعل، وبعضها الآخر متورّطة فيه عصابات داعش التي حاولت أخذ إتاوات من المزارعين لكنّهم رفضوا إعطاءها إيّاها".

ويوافق علي المعموري، وهو عضو في مجلس شيوخ عشائر ديالى، التميمي في رأيه، مشيراً إلى أنّ "تهديدات تنظيم داعش لم تنته على الرغم من إعلان القوات المسلحة تطهير كلّ مناطق البلاد". ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أنّ "مجاميع وخلايا تابعة للتنظيم موجودة في مناطق داخل المحافظة، وهي تختبئ في داخل بساتين، فيما يعيش بعض الإرهابيين بين السكان ويخفون ارتباطهم بتنظيم داعش". ويستعيد المعموري "عمليات إرهابية عدّة نُفّذت في الأشهر الماضية واستهدفت قوات أمنية وقوات الحشد الشعبي، وهو أسلوب داعش الذي نعرفه جيداً".

لكنّ هذا السيناريو واتهام "داعش" لا يبدوان مقنعَين في مناطق أخرى شهدت حرائق، مثل النجف وواسط وبابل، إذ يختلف المشهد الأمني كلياً عن الشمال والغرب اللذَين يعانيان من جرّاء نشاط الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم داعش. ويلقي السكان التهم على من يصفونهم بجهات لا تريد للعراق الاكتفاء ذاتياً مع الإبقاء على الاستيراد من إيران، في تلميح مباشر إلى جماعات مسلحة في البلاد.

هكذا كان قبل أن تلتهمه النيران (الأناضول)

من جهة أخرى، يتّهم عدد من سكان ديالى مليشيات مسلحة بافتعال الحرائق وجعلها تلتهم بساتينهم ومحاصيلهم الزراعية، لغايات من بينها سياسية. ويذهب في هذا الاتجاه أحمد القيسي، وهو ضابط سابق في شرطة ديالى، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إنّه "من خلال التعرّف على هوية الأشخاص المتضرّرين يمكن الاستدلال على الفاعلين". ويوضح أنّ "الذين تضرروا بالحرائق هم سكان تعرّضوا في سنوات سابقة للتهجير من قبل المليشيات وعادوا في خلال السنوات الثلاث الماضية". يضيف القيسي أنّ "ثمّة سعياً مستمراً للاستيلاء على أراضي السكان الأصليين، والغاية واضحة وتعمل عليها المليشيات منذ سنين وهي تغيير ديموغرافيا المحافظة"، والسبب هو "السيطرة على المناطق التي تُعَدّ أكثر خصوبة، فضلاً عن أهداف سياسية".

في السياق، يقول مسؤول في وزارة الزراعة العراقية فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الوزارة تشجّع المزارعين على زراعة أراضيهم، ولديها خطة طموحة لجعل العراق يعتمد ذاتياً على منتجاته ويحقق الاكتفاء الذاتي في عدد كبير من المزروعات". يضيف أنّ "ثمّة عبثاً من قبل أكثر من جهة، بعضها يحاول عن قصد عرقلة خطط الوزارة وتدمير الزراعة المحلية، فضلاً عن عمليات انتقام من المزارعين من قبل عناصر داعش". وإذ يتحفّظ المسؤول نفسه عن تسمية تلك الجهات، يؤكد أنّها "تمتلك قوة داخل البلاد تمكّنها من فعل هذه الجرائم من دون حساب. وهي تحاول منع العراق من إعادة إحياء أراضيه الزراعية". يُذكر أنّ البيانات الحكومية تفيد بأنّ المساحات الصالحة للزراعة في العراق كانت تبلغ 63 مليون دونم قبل عام 2003، في حين تُقدَّر اليوم بنحو 48 مليون دونم.

من جهته، يقول عضو اتحاد الفلاحين العراقيين محمد محجم الشمري، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الحرائق مفتعلة متعمّدة"، مضيفاً أنّ "الجهات المتورّطة في الحرائق اثنتان، الأولى تنظيم داعش الذي ينتقم من العشائر والقرى التي وقفت مع قوات الأمن ضده في خلال معارك تحرير المدن، أمّا الثانية فتتمثل بالمتضرّرين من اعتماد العراق كلياً على نفسه في الزراعة، وثمّة مافيات وشبكات تستفيد شهرياً من ملايين الدولارات بفعل الاستيراد من الخارج". لكنّ الشمري يرى أنّ "الحرائق حتى الآن لا تشكّل تهديداً كبيراً، لكنّ استمرارها بالتأكيد سيمثّل خسارة كبيرة للعراق، وتحديداً للمزارعين".



ثمّة طرف آخر تشير إليه أصابع الاتهام في ما يخصّ افتعال حرائق حقول القمح في ديالى، يتمثل بتجار عراقيين يستوردون المحاصيل الزراعية. وهذه ليست المرّة الأولى التي يُتّهم فيها تجّار بالتسبب في مثل هذه الحرائق وافتعال الأزمات، وما يشاع هو أنّ مجموعة من التجار ذوي النفوذ في داخل البلاد يسعون إلى الإبقاء على تردّي الواقع الزراعي في العراق حتى تبقى مصالحهم قائمة. وهو ما يؤكده سليمان السامرائي، الذي يعمل في مجال تسويق المحاصيل الزراعية المحلية، والذي يرتبط بعلاقات مع عدد من التجار، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إنّ "تجاراً حديثي النعمة يقدمون على القيام بأيّ شيء من أجل مصالحهم". يضيف السامرائي أنّ "هذه الجرائم مستمرة وصرنا نشهدها كلّ عام، والعراقيون جميعاً، بما في ذلك السلطات الحكومية، تعرف من هو الفاعل ولماذا فعل هذا". ويشير إلى أنّه "فضلاً عن الحرائق التي تطاول المحاصيل الزراعية في كلّ عام، فإنّ جريمة أحواض الأسماك التي وقعت قبل عامَين خير دليل على ما يحصل بعدما أعلنت وزارة الزراعة عن الاكتفاء الذاتي من الثروة السمكية".
دلالات