تكثر الدراسات اليوم في ما يتعلّق بفيروس كورونا الجديد الذي يمتدّ بسرعة غير متوقّعة ويضرب الأرض وسكانها. وفي حين يبدو بعضها من دون أهمية أو يأتي بنتائج مضللة، فإنّ أخرى تأتي لتمثّل نماذج تعتمدها الدول للحدّ من الكارثة.
في صورته التي تظهر على الصفحة التعريفية الخاصة به على موقع جامعة "إمبيريال كولدج لندن"، يبدو البروفوسور نيل فرغسون مع ابتسامة عريضة أكثر شباباً ممّا هو عليه. في موجز سيرته المهنية، يقول إنّ أبحاثه تسعى إلى تحسين فهم العوامل الوبائية والتداخلات السكانية التي تساهم في انتشار الأمراض المعدية لدى البشر (ولدى الحيوانات كذلك)، وإلى اقتراح استراتيجيات تدخّل تهدف إلى الحدّ من انتقال الأمراض أو على أقلّ تقدير التخفيف من وطأتها. وينهي فرغسون الفقرة الأولى من سيرته المهنية بالآتي: "كثير من أعمالي يُطبَّق، وذلك عبر تقديم المشورة للمؤسسات الصحية العامة والدولية في بناء سياساتها لمكافة الأمراض". وبالفعل، راح اسم فرغسون يتردد كثيراً في الأيام الماضية، خصوصاً أنّ أبحاثه تقوم على دراسات أوبئة، فبات الباحث البريطاني أحد المراجع الأساسية للحكومات الساعية إلى مواجهة وباء كورونا في العالم. وبعد تجاهل في بداية الأزمة من قبل الحكومتَين الفرنسية والبريطانية، دفعت نتائج الأبحاث الجديدة لفرغسون وفريقه أخيراً فرنسا إلى إحداث تغييرات كبيرة في سياسة التعاطي مع فيروس كورونا الجديد، وبريطانيا إلى قلب مقاربتها للأزمة.
وقد نشر فرغسون والفريق البحثي الذي يديره، يوم الإثنين الماضي، على موقع جامعة "إمبيريال كولدج لندن"، نتائج بحث جديد أعدّاه بطلب من بعض صانعي السياسات، تحت عنوان "أثر التدخّل غير الدوائي للحدّ من وفيات فيروس كورونا الجديد وطلب الرعاية الصحية". ويقدّم البحث القائم على دراسة نموذجية للوباء، سيناريوهات محتملة لتطوّر وباء كورونا في ظلّ غياب أيّ تدخّل من قبل السلطات في بلدَين اثنَين هما الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. لكنّ نتائج البحث أظهرت أنّ من من شأن سيناريو مماثل أن يؤدّي ليس فقط إلى إصابة 81 في المائة من سكان البلدَين بالفيروس إن لم تقم الدولتان بأيّ تدخّل، بل وإلى وفاة مليونَين و200 ألف شخص تقريباً في الولايات المتحدة ونحو 510 آلاف شخص في بريطانيا.
ولمحاكاة الطريقة التي قد ينتشر بها الفيروس في هذَين البلَدين، يستفيد البحث من الأرقام المتعلقة بكيفية انتشاره سابقاً في بلدان أخرى مثل الصين وكوريا الجنوبية. كذلك يأخذ البحث بالاعتبار معطيات كثيرة من قبيل الكثافة السكانية، والعمر، والجنس، وفترة حضانة الفيروس، ومعدّل نقل شخص مريض للفيروس إلى أشخاص آخرين، واختلاف هذا المعدّل باختلاف المساحة والروابط التي تجمع بين الأشخاص كالمنزل والمدرسة والعمل، بالإضافة إلى اختلاف حدّة الفيروس وقابلية العدوى بين الأشخاص الذين يظهرون أعراضاً وأولئك الذين لا يبدو عليهم المرض، وغيرها من عوامل.
ويرى فرغسون وفريقه أنّ ثمّة سيناريوهَين لمواجهة الأزمة، فيطلقان على الأوّل اسم سيناريو "التخفيف من الوباء" وعلى الثاني سيناريو "كبح الوباء". ويشبه السيناريو الأوّل السياسة التي بدا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مقتنعاً بها حتى اليومَين الماضيَين، والقائمة على عدم السعي إلى وقف تفشّي الفيروس بل إبطائه، ما يسمح للناس باكتساب مناعة جماعيّة ضدّه مع مرور الوقت. وتكتفي السلطات في سيناريو كهذا، بالجمع ما بين إجراءات مثل عزل الحالات المشتبه في إصابتها في المنازل، وتطبيق حجر صحي على كلّ أفراد العائلة التي أصيب أحد أفرادها أو أكثر من فرد واحد منها، بالإضافة إلى التباعد الاجتماعي للمسنّين والأشخاص الأكثر هشاشة أمام الفيروس. لكنّ الدراسة تظهر أنّ من شأن سيناريو "تخفيفي" كهذا ألا يحول دون وفاة 250 ألف بريطاني في خلال فترة انتشار الفيروس، وما بين مليون و100 ألف ومليون و200 ألف أميركي.
ويبدو أنّ هذا السيناريو الكارثي هو الذي دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكذلك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى اتّخاذ قرارات أكثر صرامة لمواجهة الفيروس في اليومَين الماضيَين. وبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، فقد قام المجلس العلمي الخاص بتقديم المشورة إلى الحكومة الفرنسية لمواجهة الوباء العالمي، بعرض نتائج بحث فرغسون وزملائه على الرئيس ماكرون يوم الإثنين الماضي، فأعلن الأخير بالتالي، مساء اليوم نفسه في كلمة متلفزة، دخول البلاد في حالة من العزل التام لمدّة 15 يوماً على أقلّ تقديم.
كذلك يبدو أنّ البحث نفسه دقّ ناقوس الخطر بالنسبة إلى الحكومة البريطانية التي قامت بإجراءات أكثر صرامة، وإن كانت غير كافية بالنسبة إلى كثيرين. وتلك الإجراءات تشبه تلك التي أعلنتها فرنسا في نهاية الأسبوع الماضي، كفرض العمل من المنزل والتخفيف من التنقلات "إلا الضرورية منها". ويتوقّع مراقبون أن تعمد الحكومة البريطانية إلى فرض تدابير جديدة في هذا الاتجاه.
وتشبه الإجراءات الجديدة المعلنة في فرنسا وبريطانيا تلك التي يوصي فيها السيناريو الثاني الخاص بـ"كبح الوباء"، في بحث فرغسون وفريقه. وهذا السيناريو يوصي بالجمع ما بين عدد من الإجراءات في الوقت نفسه، كفرض التباعد الاجتماعي ليس على المسنين والأشخاص الأكثر هشاشة فحسب بل على كلّ أفراد المجتمع، بالإضافة إلى عزل الأشخاص المشتبه في إصابتهم في منازلهم وتنفيذ الحجر الصحي على عائلاتهم، إلى جانب إغلاق المدارس والجامعات.
ومن شأن هذا السيناريو التقليل من إمكانية نقل الشخص المريض العدوى إلى أشخاص آخرين، لتصير النسبة أقلّ من شخص واحد (النسبة الحالية تتراوح ما بين 2.1 شخص و2.5) قبل الوصول إلى انحسار كامل للفيروس مع مرور الوقت وتعافي المصابين. لكنّ الباحثين لا يضمنون أن يؤدّي هذا السيناريو إلى خفض عدد المصابين حتى الصفر، كما لا يضمنون عدم حدوث قفزة جديدة في أعداد المصابين، خصوصاً في حال عدم الالتزام بالتدابير كما هو مفترض. وعلى الرغم من اعتراف فرغسون وفريقه بثقل إجراءات كهذه على المجتمعات واقتصادات الدول وصعوبة الحفاظ على تطبيقها من دون انقطاع، فإنّهم يقولون إنّ هذا السيناريو الثاني هو الوحيد القادر على تجنّب كارثة صحية حتى يومنا هذا، في انتظار لقاح ما.