تسبب القمع الذي تمارسه الشرطة الفرنسية، لا سيما قوات مكافحة الشغب، بحق المتظاهرين في حراك السترات الصفراء، في نوع من النفور من جانب المواطنين تجاه أفرادها، وهو ما يمثل تبدّلاً في النظرة العامة تجاه الشرطة
في مشهد نادر أعقب الاعتداءات الإرهابية التي ضربت فرنسا سنة 2015، عانق المغني رونو، شرطياً، امتناناً منه للدور الذي تلعبه الشرطة في حماية المواطنين، علماً أنّ الجميع يعلم أنّ أغاني رونو متمردة، عدا عن انتقاداته للشرطة.
شيءٌ ما تغيَّر، في هذه المرحلة الصعبة في حياة الفرنسيين إذ تضاعفت الاعتداءات الإرهابية، وبدأت مختلف استطلاعات الرأي تتحدث عن حبّ الفرنسيين لشرطتهم. استمرّ هذا الوضع حتى بدء حراك السترات الصفراء في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، المستمر حتى اليوم، وإن بوتيرة أقل حدة.
لكن، ما الذي جعل الفرنسيين يغيرون من نظرتهم إلى شرطتهم، التي تحميهم؟ لا يختلف اثنان على أنّ حراك السترات الصفراء أحدث تغييرات كبيرة في البلاد، زعزعت السلطة الحاكمة. لكنّ هذه الاحتجاجات الاجتماعية قوبلت بعنف بوليسي شديد، وعلى الرغم من أنّ الحكومة ورئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، يرفضان، بشدة، استخدام تعبير "العنف البوليسي"، فنتائج هذا العنف كانت كبيرة، إذ في غضون سنة، فقط، توفي 11 شخصاً أثناء التظاهرات وفي حوادث مرتبطة بها. أما عدد الجرحى فقد كان كبيراً جداً، ففي أقل من سنة، أصيب 2495 متظاهراً، من بينهم 25 فقدوا عيناً، وخمسة خسروا يداً، وفَقَد متظاهر خصيته، فيما فقَد آخر حاسة الشم.
وكانت صور الجرحى والوجوه الدامية وهي تغزو شبكات التواصل الاجتماعي، كافية لتغيير نظرة كثير من الفرنسيين إلى الشرطة الفرنسية، على الرغم من طبيعة العمل الشاق والخطير الذي تواجهه القوى الأمنية، وهو ما تعكسه ربما إحصائية تشير إلى انتحار 59 شرطياً في سنة 2019، وحدها.
ما فاقم الأوضاع كان تعرض متظاهرين أبرياء لتعنيف بوليسي، وهو ما دفع جمعيات حقوقية وطبية، للتنديد بقمع المتظاهرين، في حين راسل أطبّاء معروفون ماكرون، من دون جدوى، في شأن أسلحة تستخدمها الشرطة، توقع إصابات خطيرة بين المتظاهرين، وتدينها منظمات الأمم المتحدة.
لا شك أنّ حراك السترات الصفراء غير مشهود من قبل، ليس فقط بسبب الفترة الزمنية الطويلة التي استغرقها، بل أيضاً بسبب التعاطف الشعبي الكبير مع مطالبه. وهو ما يجعل القمع البوليسي، أحياناً لبعض التظاهرات، غير مفهوم من طرف الفرنسيين. كذلك، تلعب دوراً تصرفات ماكرون وكذلك مواقف وزير داخليته، كريستوف كاستانير، القاسية والعدائية من المتظاهرين الضحايا، إذ لم يجدا ما يدفعهما لزيارة الجرحى والتعاطف مع ذويهم، في الوقت الذي كانا يُعبّران على الفور عن وقوفهما، والدولة والحكومة، إلى جانب أفراد الشرطة الذين يتعرضون لاعتداءات من قبل عناصر فوضوية مندسة بين المتظاهرين. وهو ما جعل رأسمال التعاطف مع الشرطة يتضاءل. وأثناء الاحتجاجات الأخيرة خرجت شعارات وملصقات تطالب القوى الأمنية بـالانتحار "انتحروا، أفضل لكم"، احتجاجاً على العنف البوليسي، وهو ما انتقدته وزارة الداخلية وهددت بمقاضاة من يقفون وراءه.
تساءل كثير من المراقبين عن السبب الذي جعل شباب الأحياء الشعبية والضواحي يمتنعون عن الانضمام بكثرة إلى حراك السترات الصفراء. وكان كثير من الأجوبة قد تطرق إلى برنامج السترات الصفراء وتركيبته، فهو في الغالب، وليد الأرياف الفرنسية حيث الهموم مختلفة، والشرائح التي تحركت لم تكن في السابق مُسيَّسة كما لم تصطدم من قبل بعنف الشرطة، بل تحركت لأنّها أصيبت في قدرتها الشرائية بسبب رفع أسعار المحروقات. أما الأحياء الشعبية والضواحي، فتعاني منذ عقود من العنف البوليسي، الذي "يقتل" و"لا يرحم" كما يقول البعض، فيما الحصيلة ثقيلة، وأثقل منها ضعف التعاطف الفرنسي، حين تتظاهر، منددة بما تتعرض له.
يقول يوسف بوسماح، من حزب "أهالي الجمهورية": "يبدو أنّ فرنسا الشعبية اكتشفت مع السترات الصفراء أنّ شرطتها عنيفة، وأنّها تمارس العنف، لكنّ الضواحي اكتشفت، منذ عقود، أنّ هذه الشرطة الجمهورية تَقتل وتفلت من العقاب. والضحايا كثر، وهو ما يجعل العلاقة بين سكان الضواحي والأحياء الشعبية، والشرطة متوترة جداً". يضيف بوسماح أنّ "العربي والأسود، هما أكثر المواطنين تعرضاً للتفتيش والمراقبة والتصفية، ومن أهم الأمثلة، أداما تراوري، الذي قتل أثناء اعتقاله من طرف الشرطة، سنة 2016، وما زال القضاء يماطل".
كذلك، لا ينسى أحد انتفاضة الضواحي في خريف 2005 احتجاجاً على مطاردة بوليسيّة لفتيين، عربي وأفريقي، انتهت بمصرعهما صعقاً في محطة كهربائية. ويعتبر الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي جيفروا دي لاغينري، في لقاء له مع مجلة "سيني" الشهرية، في عدد ديسمبر/ كانون الأول 2019، أنّ "الدولة هي من يحتكر العنف". ويعتبر أنّ ثمة بعدين اثنين في قياس علاقة الشرطة بالمواطنين: الأول يتعلق بعلاقة الشرطة بالاحتجاج، والثاني يتعلق بعلاقة الدولة بِتَواجُد أناس يجري تحديدهم على أنّهم "فائض" على التراب الوطني، وهم الشباب السود أو العرب على وجه الخصوص. يضيف أنّ الأمر يتعلق بمنطقين مختلفين، لأنّ "الخضوع لعنفِ حكومةٍ معاديةٍ تَستخدم الشرطة لإعادة أناس إلى بلدانهم، هو نَمطُ عُنفٍ مختلفٍ عن العنف العنصري للشرطة، الذي يؤدي إلى إخراج بعض الأفراد من الحقل الاجتماعي".