أميركا الجنوبية تستهوي اللبنانية غريس بو نافع، خريجة اللغات، التي تجيد خمساً منها، وعملت مترجمة فورية وسافرت إلى أكثر من مكان في أوروبا. هي في رحلة مستمرة في البلاد اللاتينية منذ عام.
عادت غريس إلى بلدها عام 2018، بعدما طافت في عدد من الدول اللاتينية متعرفة على ثقافة وعادات شعوب هذه القارة، لكنّها قررت العودة لمدة ستة أشهر متطوعة هذه المرة: "لم يكن القرار سهلاً عليّ وعلى أسرتي، أبي وأمي وأخي، ولا على محيطي الاجتماعي والأصدقاء أن أعمل طوال عام في مجال الترجمة لأدخر من أجل رحلتي هذه التي قررت فيها التطوع لتعليم الصغار اللغة الإنكليزية".
تبدو البداية كالسير عكس التيار، إذ تغادر شابة من المشرق العربي وحيدة إلى مجتمعات أخرى ومجهولة بالنسبة لكثيرين، بالإضافة إلى صعوبة العثور على منظمة تقبل محلياً، خصوصاً في البيرو، فكرة أن تأتي لبنانية للعمل التطوعي لتعليم الصغار في أطراف جبال السكان الأصليين في أقصى جنوب البلاد. لكن، ردت إحدى المنظمات من بين عشرات المراسلات إلى منظمات تطوعية عدة.
حين التقت "العربي الجديد" في ليما غريس، كانت قد عادت من قرية في جبال أوينان تايتمبو على بعد ساعة ونصف الساعة إلى الجنوب من عاصمة حضارة الإنكا القديمة، كوسكو، لتذكر بأنّها بعدما وصلت إلى هنا "كأول لبنانية وعربية تتطوع لأجل أطفال الشعب الأصلي في قرى فقيرة جداً وبسيطة وبعيدة عن البنى التحتية الأساسية من شوارع أسفلتية وغيرها لم يكن أمراً بسيطاً، لكن يبدو أنّ تقارباً ما في ثقافات وعادات هذا الشعب مع ثقافتنا وعاداتنا العربية كسر بعض الحواجز، بالرغم من أنّ الشعب الأصلي هناك في الجنوب، وقرب الأدغال، أكثر تحفظاً نتيجة الخجل المعروف به. مع ذلك، وجدت تقبلاً وحميمية سريعة مع أسر هؤلاء التلاميذ الصغار".
في تلك الطرقات الملتوية والخطرة والترابية، كانت غريس تجلس في حافلات بسيطة كغيرها من سكان المناطق الجبلية للوصول إلى ما يشبه مدرسة لتعليم الأطفال الذين يسيرون مسافات للوصول إلى صفهم. وأحياناً تعود فلا تجد حافلة، فتركب في إحدى السيارات المتوجهة إلى مكان سكنها. تذكر غريس أنّها "بتصرفات تلقائية والعيش ببساطة معيشة هؤلاء كنت سريعة الاندماج، وقد ساعدتني إجادتي الإسبانية على أن أكون معلمة إنكليزية لأطفال فقراء يحتاجون كلّ ما يمكن، خصوصاً في منطقة قريبة من السائحين الآتين من كلّ العالم للاطلاع على آثار حضارة الإنكا".
في تلك المناطق النائية، لم يقتصر دور المتطوعة غريس على تعليم الصغار، بل اعتبرت نفسها سفيرة لثقافة وحضارة بلدها والعالم العربي: "كانوا يسألون كثيراً عن البلد الذي أتيت منه، وحين كنت أخبرهم عن الموقع الجغرافي للبنان كانوا يسألون إن كان قريباً من فلسطين، وكنت أخبرهم عن ثورة شبابية في بلدي وأشاركهم بعض الصور ومقاطع الفيديو، ليعرفوا أكثر أنّنا شعب عادي مثلهم لديه حقوق ومطالب".
ومن الجدير بالذكر، أنّ منطقة كوسكو اعتبرت الموطن الأول للمهاجرين الفلسطينيين في القرن التاسع عشر وما زالت أسر كثيرة مقيمة هناك وتوالدت أجيال منهم بالتزواج مع السكان المحليين، وإن كانت اللغة العربية قد انحسرت فإنّ أسماء هؤلاء وأسماء أسرهم دالة على آثار الفلسطينيين بالآلاف، ومنهم مزارعون يملكون أراضي واسعة في كوسكو.
كانت غريس شغوفة في التعرف على أيّ ناطق بالعربية وهو ما لم يتحقق لها قبل أن تحضر إلى ليما، لتقيم أيضاً في أبسط الفنادق، المعروفة برخص ثمنها والمعروفة باسم "هوستل" أو نزل الشباب. وبالرغم من بعدها عن لبنان، فهي كثيرة الاهتمام بما يجري على أرضه: "أنا مع الثورة. وبالرغم من معرفتي أنّها لن تغير مائة في المائة كلّ الأمور، فقد كسرت الحاجز الطائفي، وأعتبرها خطوة أولى نحو أن يكون لنا هوية جامعة بعيدة عن الفساد والمذهبية".
لا ترى غريس في عملها التطوعي شيئاً مميزاً "لأناس يحتاجون وهم أفقر منا، فالفكرة أن نعمل على ما نؤمن به لمساعدة الآخر وإن كان ذلك أحياناً على حساب رفاهيتنا التي اعتدنا عليها، فالإحساس بالآخر ضروري، وحين ترى الامتنان والشكر من قبل المجتمعات المحلية لعملك التطوعي فهي أكبر هدية لك أن تشعر بدفء العلاقات البشرية مهما اختلفت الألسن والثقافات".
تعتبر غريس بونافع نفسها "محظوظة أنّي من أسرة غير منغلقة، وكان لأبي وتعامله مع ثقافات وطوائف مختلفة دوره وأثره في انفتاحنا أنا وأخي على البشر مهما كانت خلفياتهم".
الاحتجاجات في لبنان أثرت عليها أيضاً، ليس فقط لناحية الإجابة عن تساؤلات الناس عما يجري هناك، بل على وضعها المالي أيضاً: "وضعت ميزانية صارمة لرحلتي كي تكفيني النقود التي ادخرتها خلال عملي لسنة، لكن أثر وضع سقف لقيمة السحب من خلال بطاقتي الائتمانية على مخططي الذي صار أكثر صرامة إذ وضعت مصارف لبنان حداً معيناً لقيمة السحب الأسبوعي وصرت أكثر تقنيناً".
كانت غريس في ليما تختار نزلاً رخيصة للإقامة فيها لاستكمال رحلتها التي ستطول مدتها شهوراً هناك. وبالرغم من الصعوبات، تقول غريس: "لن أتراجع عن هدفي بسبب شح النقود، لقد حدثت الثورة في لبنان وأنا في البيرو، وصرت أكثر تصميماً على تحقيق هدفي وإن تطلّب الأمر مني أن أجد عملاً هنا".
من البيرو تخطط غريس لرحلة تشمل بوليفيا والإكوادور وكولومبيا، وتشعر بطريقة أو بأخرى أنّ "التعرف على ثقافات هذه الشعوب يتطلب وقتاً، والآن ما زلت أحب الاستمرار في مشواري الذي قطعت أشواطاً منه، ولا أعرف بعد مرور ستة أشهر كيف ستكون الأمور، لكنّها رحلة تفتح الكثير من الآفاق أمام الإنسان في قارة أخرى تضمّ شعوباً وثقافات مختلفة وقريبة منا في كثير من جوانبها".
وعن تنقلاتها داخل بيرو أو بين المدن، تقول غريس "استخدمت الحافلات بكلّ الأنواع التي يستقلها السكان المحليون وسكان المدن، وكنت أنتقل في حافلات الليل بين مناطق بعيدة لمدة 10 ساعات لأنّها تمنحك مقعداً مريحاً للاستلقاء ولا أستعمل الحافلة للانتقال بين ليما وكوسكو لأنّها طرقات مرتفعة ومتعرجة وخطرة جداً وتتطلب يومين للوصول من مدينة إلى أخرى، لذلك كنت آخذ الطائرة وهي لا تكلف كثيراً". وتذكر أنّ 75 دولاراً أميركياً كافية للانتقال بالطائرة من كوسكو إلى ليما إذا تمّ الحجز مبكراً، بينما لا تكلف رحلة الحافلة بين كوسكو وأركيبا (أيضاً في الجنوب) أكثر من 38 دولاراً.