في ليبيا أزمة مياه خطيرة، إذ إنّ قطعها عن بعض المناطق يتسبب في ازدياد حفر آبار المياه العذبة التي تختلط بدورها بالمياه الآسنة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى أزمة صحية، خصوصاً مع انتشار أمراض عدة مرتبطة بالتلوث
تزداد الأزمات المعيشية سوءاً في ليبيا، بعد سنوات من الفوضى والتردي الأمني والسياسي، فعلاوة على التعديات المتلاحقة التي تواجهها شبكات نقل مياه الشرب من الجنوب عبر منظومة النهر الصناعي، والتي تغذي أغلب مدن الشمال، يواجه المواطن مشكلة تلوث المياه الجوفية. منذ عام 2015 تواصل إدارة النهر الصناعي بياناتها التي تؤكد توقف أغلب حقول المياه في الجنوب الليبي بسبب الاعتداءات المتزايدة، بالإضافة إلى تحكم مجموعات مسلحة في صمامات نقل المياه الرئيسية، إذ أقدمت في العديد من المناسبات على إقفالها في مساومات سياسية وابتزاز مالي للحكومات، وبسبب أزمة المياه لجأت أسر ليبية عديدة إلى حفر الآبار لتعويض نقص المياه، لكنّ هذا الحل هو الآخر لم يعد ممكنا أن يعوض ذلك النقص.
يشير بشير حمادي، وهو سائق حفارة آبار، إلى أنّ فصل الربيع وأوائل الصيف كان موسم عمله، لكنّه يؤكد أنّ "مشاكل النهر الصناعي حولت كلّ فصول العام إلى موسم عمل لي". يذكر حمادي أنّ الطلب على حفر الآبار المنزلية بات كبيراً على الرغم من ارتفاع كلفة الحفر من ألف دينار ليبي (نحو 700 دولار) عام 2012 إلى 12 ألفاً (نحو 8500 دولار) حالياً. يقول: "أكثر الطلبات تأتي من سكان المباني السكنية ممن يشتركون في حفر بئر جماعية لتغذية شققهم بالمياه، لا سيما مع تعمق أزمة المياه والكهرباء هذه السنة والسنة الماضية".
لكنّ الهيئة العامة للمياه (حكومية)، حذرت في العديد من البيانات، آخرها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من احتمال وقوع كارثة صحية بسبب تلوث المخزون الجوفي للمياه، مشيرة إلى خطر تهالك شبكتي المياه والصرف الصحي في أكثر المدن الليبية، لا سيما العاصمة طرابلس. يوضح أحمد الشايب، الموظف في الهيئة، أنّ هذا التهالك أدى إلى تلوث مياه الشرب بالمياه الآسنة في مناطق عدة: "مختبرات الهيئة أكدت في العديد من الدراسات بناء على عينات مياه الآبار المنزلية، ظهور جراثيم قولونية تتجاوز بكثير الحدّ المسموح به في مياه الشرب". يشير إلى أنّ تلك الدراسات تؤكد ارتفاع نسب الجراثيم القولونية بأمراض خطيرة، مثل التهابات المعدة والأمعاء والحمى التيفودية والكوليرا وعدة أمراض جلدية.
من جانب آخر، يشير الشايب إلى عدم قانونية الحفر الذي وصفه بـ"الجائر"، فأغلب الآبار المنزلية حفرت من دون الحصول على التراخيص من الجهات المختصة. يتابع: "للقضية جانبان؛ الأول استنزاف المياه الجوفية بشكل خطير وغير مسموح به، والثاني الحفر من دون ترخيص، ما يعني أنّ هناك إمكانية لاستهلاك مياه ملوثة، بشكل كبير في العادة، لا تتبين للمواطن العادي الذي يحفر من دون تحليل لتلك المنطقة". لكنّه في الوقت نفسه، يؤكد تلقي أسئلة عديدة من المواطنين، يصفها بالمحرجة: "بعض المواطنين يطالبوننا بالحلّ، فمياه الشرب ضرورية، ولا يمكن الاستغناء عنها ليوم واحد". ويطالب حكومات البلاد بالمسارعة في حلّ مشكلة المياه التي ستؤدي إلى مخاطر كبيرة على صحة المواطن، معتبراً أنّ "المواطن يلجأ إلى حفر آبار سطحية لا تصل إلى المياه الجوفية، وهي آبار غالباً ما تكون مياهها ملوثة بالمخلفات الصناعية، كالزيوت وغيرها". يتابع: "بالرغم من التنبيهات الكثيرة، فالمواطن يراعي ميزانيته الصغيرة التي لا تكفي لحفر بئر عميقة يصل إلى المياه الجوفية الآمنة التي تتطلب الحفر إلى عمق أكثر من 150 متراً".
في المقابل، يقول حامد الجويفي، عضو جمعية حماية المستهلك، إنّ "الهيئة العامة للمياه عاجزة تماماً بسبب غياب التمويل الحكومي وإهمال النداءات المتكررة". يتابع: "حتى لو توفر التمويل فالكلّ عاجز أمام نفوذ السلاح والمليشيات وغلبة الصراعات السياسية". يلفت إلى عجز الحكومة حتى عن حلحلة تضارب الاختصاصات بين جهاتها وعدم وجود تنسيق بينها. يعدد الجويفي تلك الجهات: "الهيئة العامة للمياه، وشركة الخدمات المائية، والشركة العامة للمياه والصرف الصحي، ووزارة الموارد المائية، ولكلّ منها اختصاصات متشابكة مع الأخرى، وبعضها تركت أعمالها للبقية، هرباً من المسؤولية". لكنّ الجويفي يؤكد أنّ المواطن لم يعد يكترث بحديث المسؤولين وتبريراتهم: "لا حلّ لدينا، وسلطات البلاد غارقة في مشاكل الحروب والخلافات السياسية والصراعات، حتى تحولت المياه إلى ورقة في الصراع، وهي أسوأ ما يمكن أن تصل إليه حال المواطن".
يلفت الجويفي إلى جانب آخر في أزمة المياه ممثلة في مصانع المياه، فالقانون الليبي كلف مكاتب الإصحاح البيئي التابعة لوزارة الحكم المحلي بمسؤولية مراقبة مصانع المياه المنتشرة في السوق حالياً وقانونية إنتاجها. كذلك، فإنّ تلك المكاتب مكلفة أيضاً بمراقبة جودة مياه الآبار المنزلية، ومدى موافقتها شروط الحصول على ترخيص بالحفر. لكنّ مكاتب الإصحاح تشكو من أنّ الصلاحيات نقلت إليها من دون مدّها بالمواصفات القياسية التي يمكنها العمل على أساسها. ويؤكد الجويفي أيضاً أنّ طرابلس لا يتوفر فيها معمل واحد لتحليل المياه، حالياً، إذ إنّ جميعها معطل: "فما بالك بالمدن الأخرى إذا كان وضع معامل التحليل في العاصمة هكذا؟".
ويبين الجويفي أنّ مياه الشرب المعبأة في مصانع المياه والتي تعتبر المصدر الأول لمياه الشرب حالياً في أغلب أنحاء البلاد لا يُعرف على وجه الدقة مدى جودة منتجاتها، فتراخيصها غير مرفقة بمواصفات قياسية حديثة مواكبة لتطور التلوث البيئي.