يعرف الفرنسيون جيداً أنّ نظام التقاعد الحالي الذي تريده الحكومة نظاماً تقاعدياً شاملاً، للقطاعَين العام والخاص، لم يعد ملائماً، وأنّ الدولة مدينة بأرقام مالية كبيرة
الفرنسيون يعيشون اليوم أكثر مما كانوا يعيشون من قبل، ونظام التقاعد التضامني، لم يعد يلبي شروط الحياة العصرية، فقد أعدّ على أساس أنّ من هم في سوق العمل يموّلون المتقاعدين، الذين موّلوا بدورهم من سبقهم ورحل. لكنّ هذا النظام التضامني في أساسه، يعاني من مشكلتين، هما نقص الولادات، من جهة، وارتفاع معدل أعمار الفرنسيين، من جهة ثانية. إذاً، فسنّ التقاعد الذي كان مقدَّساً لم يعد كذلك. وبالتالي، فإنّ سن 62 عاماً لم يعد السن الذي يسمح لصاحبه بالتقاعد والحصول على راتبه التقاعدي كاملاً. وتحاول جميع الحكومات إصلاح نظام التقاعد، لكنّها لا تصل إلى حلول يقبلها الجميع. من هنا، يأتي حذر حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، التي قررت، خشية خريف اجتماعي ساخن، اللجوء إلى "استشارة المواطنين" وأيضاً النقابات. وشحذت النقابات والمعارضة أسلحتها، قبل الإقدام على إقرار إصلاح جديد، بما أنّ النظام الحالي، وباتفاق الجميع، مواطنين ونقابات وأحزابا سياسية، غير مقبول، وغير عادل، ومُكلف للخزينة.
وكان التقرير الذي طلبه ماكرون من الوزير الأسبق جان- بول ديلوفوا، قد عرض اقتراحات على رأسها: إنشاء نظام اشتراك اجتماعي بالنقاط للحلول محل الاشتراكات السنوية، ورفع سن التقاعد الكامل (سن التوازن) إلى 64 عاماً، مع ترك سنّ 62، سنّاً قانونيا للتقاعد، لكن مع ما يترتب على هذا السن من احتمال أن يكون الراتب التقاعدي غير كامل، وهنا يختار العامل أو الموظف، بين السن القانوني والسن الكامل أو "سن التوازن"، وهو ما اعتبرته النقابات نوعاً من إكراه الفرنسيين على العمل أكثر، أي ما بعد السن القانوني للتقاعد. ولا شيء يضمن ألا يُضطر الفرنسيون، في نهاية الأمر، للعمل إلى ما يتجاوز الرابعة والستين، إذ إنّ سن التقاعد في بعض البلدان الأوروبية يصل إلى 67 عاماً، كما في ألمانيا، مثلاً، أو 66 عاماً للرجال (و62 للنساء) في إيطاليا.
ومن بين توصيات التقرير، أيضاً، تثبيت الراتب التقاعدي الأدنى عند 85 في المائة من الحد الأدنى للأجور. وهو يشمل كلّ القطاعات، أي الفلاحين والعاملين في الصناعة والتجار، أو الأشخاص الذين عملوا بدوام جزئي، خصوصاً النساء. وأيضاً صرف زيادة ابتداءً من المولود الأول، وهكذا يمكن أن يحصل الشخص الذي يرزق بطفل على إعانة تصل إلى 5 في المائة، في الوقت الذي يتطلب إنجاب ثلاثة أبناء من أجل الحصول على 10 في المائة، في الوضعية الحالية، في ما يخص القطاع الخاص. وهذه الإعانة ستحصل عليها الأمّ، في معظم الأحيان، لكن يمكن أيضاً تقاسمها بين الزوجين.
ولا تبدي النقابات حماسة لمقترحات إصلاح قانون التقاعد، بما أنّ التقرير يقترح فترة انتقالية تدوم 15 عاماً، وتعتبرها معظم النقابات محاولةً للقفز على السن القانوني للتقاعد، الذي تعهد المرشح إيمانويل ماكرون في حملته الانتخابية بألاّ يغيره، وتريد النقابات، في المقابل، أن يكون الراتب التقاعدي معادلاً لـ 100 في المائة من الحد الأدنى للأجور، وليس 85 في المائة، فقط، كما يقترح التقرير.
ويعرف ماكرون أنّ إصلاح التقاعد ليس مهمة سهلة، ولا يمكن مقارنته بإصلاح "الشركة الوطنية لسكك الحديد"، ففي ما يخص سكك الحديد، استطاع الرئيس إقناع الفرنسيين بأنّ عمال هذا القطاع محظوظون ولهم امتيازات لا يتمتع بها كثير من الفرنسيين، وأنّ القطاع مفلس وعليه ديون ضخمة، ولهذا استطاع الرئيس التخلص من إضرابات عمالية دامت أسابيع، كانت شعبية، في البداية، سرعان ما تخلى عنها الفرنسيون، وأقرّ إصلاحه بالقوة. لكنّ إصلاح التقاعد هو إصلاح يهم كلّ الفرنسيين وكلّ الأجيال. ويعرف ماكرون، الذي خرج من حراك "السترات الصفراء" مُنهكاً، أن لا مصلحة له في فرض شيء، اعتماداً على أغلبيته البرلمانية، على المواطنين، ومن هنا رغبته في إجراء "استشارة مواطنية"، وإن كانت بصورة أصغر من "الحوار الوطني الكبير"، حتى يضمن، على الأقل، أغلبية. وهذه الاستشارة ستكشف القطاعات المتضررة من نظام التقاعد، كالفلاحين أو القطاعات الشاقة، أو النساء، اللواتي يشتغلن، أقل، بسبب الإنجاب أو تعهد الأبناء.
ومساهمةً منه في النقاش المتوقع أن يكون حاداً، وسط استعدادات نقابية للتظاهر أُعلِن عن تواريخ بعضها في سبتمبر/ أيلول المقبل، كشف ماكرون عن موقفه غير الملزم من ذلك الإصلاح، في مقابلة مع قناة "فرانس 2" يوم الإثنين 26 أغسطس/ آب، قائلاً إنّه "لا بدّ من أن يحظى بأكبر توافق ممكن". أضاف: "أفضّل أن نتوصّل إلى اتفاق حول مدّة الاشتراكات بدلاً من الاتفاق حول سنّ التقاعد (...) وبالتالي من يبدأ بسداد الاشتراكات متأخراً يحصل على التقاعد متأخراً كذلك، أمّا الذي يبدأ مبكراً فإنّه يتقاعد مبكراً".
وحتى يحصل المرء على تقاعد كامل يتوجب عليه أن يعمل نحو أربعين عاماً، فمثلاً يتوجب على مواليد 1949 أن يعملوا 40 عاماً حتى يحصلوا على تقاعد كامل، بينما على مواليد 1961، أن يعملوا 42 عاماً، وعلى مواليد 1973، العمل 43 عاماً. لكنّ كثيراً من المهاجرين الذي وصلوا في سنوات متأخرة، أو من أبنائهم الذين لم يعملوا سنوات كافية، لأسباب مختلفة، ومنها انتشار البطالة في أوساطهم، لا أمل لهم، البتة، في تقاعد كامل. وهؤلاء، الذين لا حظّ لهم في تقاعد كامل ومريح، يحصلون على راتبهم التقاعدي، بحسب سنوات العمل التي أدّوها. وبما أنه راتب لا يكفي، في الغالب، لشيء، تضيف الدولة إليه مساعدات، بما يجعل المتقاعد يحصل على مبلغ لا يقل عن 636 يورو شهرياً. وهو مبلغ هزيل، نظراً إلى مستوى المعيشة المرتفع في فرنسا، ما يدفع صاحبه للبحث عن مساعدات مختلفة ومتنوعة من جمعيات إغاثية وإنسانية، لا تتوقف عن الإشارة إلى أنّ قطاعات عريضة من الفرنسيين، والمقيمين في فرنسا، تلجأ إلى مساعداتها، من أجل الوصول، بسلام، إلى نهاية الشهر.