أزمة فنزويلا الحالية، والأزمة الكولومبية الطويلة، دفعتا بآلاف المهاجرين من البلدين للاتجاه إلى أراضٍ جديدة لا سيما في الاتحاد الأوروبي، لكنّ تلك الدول قليلاً ما تمنح طالبي اللجوء هؤلاء حق الإقامة.
طوال سنوات، بقيت صورة الهجرة نحو دول الاتحاد الأوروبي مرتبطة بدول جنوب البحر الأبيض المتوسط، أي المنطقة العربية والقارة الأفريقية، بالإضافة إلى دول آسيوية من بينها إيران وأفغانستان وغيرهما. لكنّ هذا المنشأ، الذي وصل إلى أوجه في سنة 2015 بعنوان "التدفق الكبير" بدأ بالتراجع في السنوات التالية، حتى وصل في العام الماضي 2018 والأشهر الأولى من الحالي 2019 إلى مستويات متدنية، بحسب ما ذكر المكتب الأوروبي لدعم اللجوء (Easo) في تقريره الصادر في يونيو/ حزيران الماضي. ويبدو أنّ تراجع أعداد طالبي اللجوء انخفض عموماً نحو 10 في المائة مقارنة بعام 2017، ووصل مجموع طالبي اللجوء في 2018 إلى نحو 668 ألفاً. وما يميز حالة اللجوء الجديدة نحو دول الاتحاد الأوروبي أنّ عام 2018 شهد زيادة تفوق الـ70 في المائة في أعداد طالبي اللجوء الفنزويليين الباحثين عن حماية هرباً من أوضاع صعبة تعيشها بلادهم، بالإضافة إلى زيادة في أعداد طالبي اللجوء الكولومبيين.
تدفق مستمر
يذهب التقرير الأوروبي المتخصص بدعم اللجوء إلى اعتبار الزيادة "هائلة من البلدين (كولومبيا وفنزويلا) إذ تقدم نحو 33 ألف طالب لجوء من البلدين في دول الاتحاد الأوروبي خلال العام 2018، أي بزيادة 71 في المائة عن العام الذي سبقه 2017، إذ لم تتجاوز الأعداد في حينه 19 ألفاً و200 طالب لجوء". وبالنظر إلى طالبي اللجوء من كولومبيا، نحو بلدان أوروبا، يسجل التقرير السنوي، الصادر تزامناً مع اليوم العالمي للاجئين، زيادة بـ122 في المائة، مقارنة بعام 2017، فيما ازداد عدد الآتين من فنزويلا بنسبة 55 في المائة.
رحلة هجرة شاقة قبل السفر الجوي إلى أوروبا(فرانس برس) |
وعلى الرغم من أنّ النسبة العظمى من طالبي اللجوء من القارة اللاتينية يتجهون نحو إسبانيا باعتبارها المستعمر السابق للبلدين، إذ اختار نحو 86 في المائة من الفنزويليين تجربة حظهم في هذا البلد، فإنّ خيبة كبيرة تصيب طالبي اللجوء من أميركا الجنوبية برفض سلطات إسبانيا منحهم اللجوء بواقع 71 في المائة، فيما نسبة رفض الكولومبيين تصل إلى أكثر من 84 في المائة من القضايا التي جرى فحصها.
ولم يمنع ارتفاع نسب رفض طلبات اللجوء، استمرار تدفق المزيد من الفنزويليين والكولومبيين خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري 2019، إذ سُجل على التوالي وصول 15 ألف فنزويلي و8 آلاف كولومبي، وذلك في رحلات جوية يتمكن هؤلاء المهاجرون من تحمل كلفتها المرتفعة. الواقع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه فنزويلا، على خلفية أزمة طاحنة بين رئيس الجمهورية نيكولاس مادورو وزعيم المعارضة خوان غوايدو، والتهديد بتدخلات أميركية وتدخلات من دول أخرى، أدى إلى وضع اقتصادي متضخم بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد، ما جعل العملة الوطنية بلا قيمة تقريباً، مع شح كبير في المواد الغذائية والموارد الأساسية. وإذا كان الوضع السياسي والاقتصادي المعقد في فنزويلا دفع بعشرات الآلاف نحو البحث عن لجوء في قارة أخرى، فإنّ دولاً أخرى في الجوار اللاتيني، خصوصاً في شمال القارة الأميركية الجنوبية ومنطقة الكاريبي، شهدت أيضاً وصول مئات آلاف الفنزويليين إلى أراضيها. وبالرغم من أنّ كولومبيا شهدت في 2016 توقيع اتفاقية سلام بين حركة "فارك" المسلحة والحكومة لإنهاء صراع استمر لعقود، فالانتقال من نزاع مسلح إلى حالة سياسية لم يمرّ من دون تسجيل مشاكل أثرت على بعض المقاطعات التي شهدت، بحسب تقارير الأمم المتحدة، اشتباكات بين مجموعات صغيرة متمردة والسلطات المحلية، ما أثر على السكان ودفع بعضهم للبحث عن اللجوء في قارة أخرى، تحديداً أوروبا، إذ وصل منهم حتى يونيو/ حزيران الماضي نحو 9 آلاف أغلبهم باتوا في إسبانيا.
من الاستقبال إلى الطرد
المثير في هذه التطورات الجديدة أنّ حالة الاضطرار إلى اللجوء لم تعد تستثني قارة أو منطقة. فبلد مثل فنزويلا اعتبر لعقود طويلة، نفطياً جاذباً للمهاجرين الباحثين عن مستقبل أفضل، خصوصاً مع الازدهار الاقتصادي في فترة السبعينيات من القرن الماضي، ومثلما جذب منذ أواسط القرن الماضي مهاجرين عرباً، فإنّ ثمانينياته جذبت الآلاف من مهاجري دول أميركا اللاتينية. وخلال 50 سنة من النزاع المسلح في كولومبيا، كانت فنزويلا ملجأ لآلاف الكولومبيين. لكنّ الأحوال تغيرت إذ هاجر أكثر من 3 ملايين مواطن فنزويلي بسبب ظروف صعبة، فتحولت البلاد الجاذبة للمهاجرين وفرص الاستثمار إلى بلاد طاردة لهم، وأغلبهم مهاجرون بصفة إنسانية، وذلك بالرغم من محاولات دول كثيرة، بما فيها أوروبية، لتقديم مساعدات إنسانية للحد من هجرة مواطني فنزويلا.
مع انهيار أسعار النفط وتفاقم الأزمات الاجتماعية خلال فترة التسعينيات، بدأت معدلات الهجرة من فنزويلا بالتزايد مع تضخم جنوني وصل في 2017 إلى 2600 في المائة. وهو ما أثر بشكل أساسي على قطاعي الغذاء والصحة وضرب أكثر الفئات الاجتماعية ضعفاً، من أصحاب الأمراض المزمنة والأسر الفقيرة والنساء، مع فقدان العائلات القدرة على تأمين قوتها اليومي بدأ آلاف الشباب يغامرون برحلة هجرة بحرية تشبه ما يقوم به المهاجرون عبر المتوسط إلى أوروبا، باتجاه الدول الجزرية الصغيرة مثل ترينيداد وتوباغو والدومينيكان وغيرها، مع الأمل في تأمين مساعدة للأهل والعودة ببعض المواد التي يمكن أن يتربحوا منها في سوق فنزويلي شبه خاو، خصوصاً الأرياف الفقيرة، بحسب ما تذكر تقارير منظمة العفو الدولية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وفقد العديد من الشباب أرواحهم غرقاً في هذه الرحلات البحرية التي تتم عادة بمراكب صغيرة ومكتظة كالتي تستخدم لعبور البحر الأبيض المتوسط.
من الفنزويليين من عبروا البحر إلى دول الجوار(فرانس برس) |
تجاوزات
بحسب منظمة "كاريتاس" فإنّ أكثر من ربع الأطفال في فنزويلا يعانون من سوء التغذية، كما تسبب غياب الأدوية في خطر على صحة السكان، وبات يمكن لأيّ مرض بسيط غير معالج أن يقضي على حياة الأطفال. ويضطر كثيرون للمجازفة بتهريب مواد غذائية وأدوية من الدول المجاورة. ويعتقد كثيرون من الواصلين إلى دول الاتحاد الأوروبي أنّ رحلة الهجرة ستكون بصفة مؤقتة ريثما يؤمنون الاحتياجات الأساسية لأسرهم ويعودون إلى دولهم، لكنّ كثيرين منهم يصابون بخيبة أمل بعد رفض طلبات لجوئهم حتى في إسبانيا التي يجيدون لغتها وهو البلد الذي استعمر معظم دول القارة اللاتينية لقرون طويلة حتى بدأت فيها ثورات الاستقلال.
بالإضافة إلى حالة التضخم وغياب المواد الأساسية، والوضع العنيف الذي تعيشه البلاد، ترى مراكز بحثية أوروبية، مثل "المركز الدنماركي للدراسات الدولية" أنّ أسباباً أخرى تدفع الفنزويليين إلى اللجوء إلى القارة الأوروبية. فالأوضاع في دول الاستقبال اللاتينية لم تعد محتملة، ويواجه الفنزويليون رفضاً أكبر من السابق في تلك المجتمعات الجارة، حيث يتهم بعض الشباب الفنزويليين محلياً بارتكاب الجرائم. كذلك، فإنّ انتشار العنف بشكل متزايد منذ 2015 يدفع بعض الأسر للهرب بعيداً عن قارتها. ويشير مركز الدراسات الدنماركي "دييس" إلى أنّ "الأرقام الرسمية في فنزويلا في 2015 جعلت البلاد من أكثر الدول عنفاً بمقتل حوالي 17 ألفاً و700 إنسان. ويؤكد "المركز الفنزويلي لمراقبة العنف" أنّ الرقم ازداد إلى أكثر من 27 ألف جريمة قتل، أي 90 جريمة قتل لكلّ 100 ألف مقيم، وزادت النسبة في 2016 إلى 92 لكل 100 ألف.
يضاف إلى تلك الأسباب التي تدفع الناس للجوء نحو قارة أخرى، أنّ دول الجوار بدأت في انتهاج سياسات رافضة لدخول الفنزويليين إليها. فمنذ فبراير/ شباط الماضي، نشرت كولومبيا نحو 3 آلاف عسكري على الحدود لمنع دخولهم بعدما كانت تسمح لهم بذلك سابقاً. وكانت بنما فرضت منذ خريف 2017 سياسة طلب التأشيرة، وبدأت منذ تاريخه عمليات ترحيل كبيرة. وعلى الرغم من ذلك، فقد احتفظت دول أخرى بسياسات استقبال أكثر إنسانية، مثل البرازيل التي أعلنت حالة طوارئ إنسانية على الحدود لمساعدة نحو 40 ألفاً من المهاجرين الفنزويليين، وأقامت مستشفى ميدانياً ومراكز استقبال في أقرب مدينة حدودية، وهي بوافيستا، عاصمة ولاية رورايما الشمالية.