مأساة في البحر الأبيض المتوسط. هكذا يُمكن توصيف حال المهاجرين السريين الذين يصرّون على اجتياز البحر أملاً بحياة أفضل، فيما يبقون عالقين وسط المياه وقد رفضت دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي استقبالهم.
بعد معاناة سفينتَي الإنقاذ البحري الألمانيتَين "آلان كردي" و"سي ووتش 3" اللتَين كانتا تقلان مهاجرين سريين كانوا قد علقوا في عرض البحر الأبيض المتوسط، واللتَين لم تسمح لهما السلطات الإيطالية والمالطية على حدّ سواء بالدخول إلى موانئها، على مدى أيام، أذنت مالطا أخيراً لسفينة "آلان كردي" بالرسوّ. أمّا سفينة "سي ووتش 3"، فقد تحدّت قبطانتها الألمانية كارولا راكيتي السلطات الإيطالية وأنزلت المهاجرين في جزيرة لامبيدوزا، الأمر الذي أدّى إلى اعتقالها قبل أن يُطلَق سراحها بعد أيام. وقد فرض كل ذلك واقعاً مستجداً في سياق أزمة المهاجرين السريين من أفريقيا عبر المتوسط، على الرغم من تعهّدات أطلقتها دول أوروبية تقضي باستقبال المهاجرين على متن هاتَين السفينتَين، من بينها ألمانيا التي التزمت عبر وزير داخليتها هورست زيهوفر باستقبال 40 مهاجراً من الذين أُنقذوا.
وارتفعت الأصوات في ألمانيا للمطالبة بترتيب الوضع الأوروبي الخاص بالمهاجرين طالبي اللجوء وسبل استقبالهم، بعد الجمود المسجّل لفترة طويلة في سياسة اللجوء الأوروبية المشتركة، إلى جانب عدم الاتفاق على حلّ في الأفق القريب يقضي باعتماد استراتيجية مشتركة لإنهاء مأساة هؤلاء، على الرغم من أنّ الأعداد التي عبرت البحر الأبيض المتوسط في هذا العام هي أقلّ من الأعداد التي وثّقت في الأعوام السابقة. لكنّ خطر الموت غرقاً يتزايد، وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، كلّما قلّ عدد سفن الإنقاذ. ونسبة الموت غرقاً بلغت هذا العام مهاجراً واحداً من بين كل 42 مهاجراً، فيما كانت تسجّل مهاجراً واحداً من بين كل 51 مهاجراً في عام 2018، علماً أنّ مهاجراً واحداً من بين كل 2689 مهاجراً فقد حياته في البحر في عام 2015.
ويأتي التضييق على سفن الإنقاذ من قبل وزير الداخلية الإيطالي اليميني الشعبوي ماتيو سالفيني ليفاقم حدّة التشنّج الأوروبي حيال الملف برمّته، لا سيّما أنّ سالفيني يتّهم منظمات الإنقاذ الخاصة بالتعاون مع مهرّبي البشر. كذلك تصبّ مهاجمته وزير الداخلية الألماني ودعوة ألمانيا إلى تحمّل المسؤولية في السياق نفسه، علماً أنّ برلين تأمل بالتوصّل إلى حلّ بخصوص التوزيع العادل للمهاجرين طالبي اللجوء بين دول الاتحاد الأوروبي. لكنّ خبراء في الشؤون السياسية الأوروبية يفيدون بأنّ وضع توزيع المهاجرين ما زال يراوح مكانه، لافتين إلى أنّ الاتحاد الأوروبي يملك معدّلات توزيع من دون نظام استقبال منتظم، ويأتي ذلك متزامناً مع تعنّت الدول الأوروبية الواقعة على الحدود الخارجية لأوروبا، من بينها إيطاليا ومالطا اللتان أغلقتا حدودهما مراراً وتكراراً أمام سفن الإنقاذ. يُذكر أنّ دراسات أعدّتها جامعتا لندن وأكسفورد في المملكة المتحدة وتناولتها صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية، تبيّن أنّ عمليات الإنقاذ البحري الخاصة لا تؤثّر في أعداد المهاجرين في أوروبا في حين أنّ ثمّة من يرى في إقفال الموانئ بوجه سفن الإنقاذ راحة لأوروبا.
يحلم بغد أفضل (فيديريكو سكوبا/ فرانس برس) |
"حوافز خاطئة"
في خضمّ كل ذلك، يوضح خبراء في سياسات الهجرة أنّ المهاجرين من دول أفريقية وآسيوية ينطلقون من ثابتة أنّ البحارة سوف ينقذونهم من الغرق، على الرغم من إدراكهم مخاطر السفر وتعقيداته ومشقّاته والأمل الغامض في الخلاص. ويبرز الباحث في شؤون الهجرة في جامعة أوسنابروك، يوخين أولتمر، في حديث إلى صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، نظرية "عامل الجذب للمهاجرين"، لافتاً إلى "الحوافز الخاطئة" أي المزايا الاجتماعية التي تُمنح للمهاجرين طالبي اللجوء. من جهته، يؤكد فرانك دوفيل من المركز الألماني لأبحاث الاندماج والهجرة أنّ عوامل الدفع هي عادة الوضع السيّئ في البلد الأصلي، من قبيل الحروب والمجاعات والبطالة والفقر، فكل ذلك يدفع الناس إلى الفرار. ويوضح أنّ رحلة العبور إلى أوروبا لا تلتزم بجدول زمني محدّد وثمّة مراحل للتنقل عبر الحدود قد تستمرّ لأشهر وربما سنتَين، إذ إنّه لا بدّ من التغلّب على مصاعب كثيرة واجتياز المعابر الحدودية والعثور على مهرّبين مع ضرورة توفّر المال.
البحث عن حلّ نهائي
الوضع الإنساني المتردّي للمهاجرين الذين يُنتشلون من البحر ويُنقلون على متن سفن الإنقاذ بالإضافة إلى تعريض حياتهم وكذلك حياة طواقم الإنقاذ للخطر دفعا عدداً من المسؤولين الأوروبيين إلى المطالبة باعتماد حلّ لإنهاء المأساة في المتوسط. وفي هذا الإطار، دعا وزير التنمية والتطوير الألماني غيرد مولر، الذي يُشهد له بنشاطه في مجال التنمية المستدامة في أفريقيا، إلى مهمة إنقاذ دولية فورية للاجئين في ليبيا. وقال في حديث إلى صحيفة "نويه أوسنابروكر تسايتونغ" الألمانية أخيراً، إنّ "ما نحتاج إليه هو مبادرة إنسانية مشتركة من أوروبا والأمم المتحدة وكذلك من المفوضية الأوروبية الجديدة"، شارحاً أنّه لا بدّ من "إطلاق مبادرة لدعم الدول المطلة على المتوسط ومساعدتها في عمليات إنقاذ المهاجرين. ولا يتوجّب علينا انتظار اتفاق يجمع كل الدول الاوروبية، لأنّه لا يمكننا الانتظار لوقت أطول، حتى لو كان يوماً واحداً". وقد عبّر مولر عن "قلق بالغ إزاء الوضع الكارثي هناك، حيث يموت الناس في مخيمات ومعتقلات البؤس الليبية من جرّاء العنف والجوع والعطش، وهم في طريقهم عبر الصحراء إلى الغرق في المتوسط عند محاولتهم الوصول إلى أوروبا". وأشار إلى "البلاغات التي تتناول عمليات التعذيب والاغتصاب والقتل في المخيمات في ليبيا"، مؤكداً أنّ "القتال المستمر في هذا البلد الأفريقي يزيد من تفاقم الوضع هناك".
من جهتها، دعت الرئيسة المشتركة المؤقتة للحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، مانويلا شفيسيغ، إلى توزيع عادل للمهاجرين طالبي اللجوء في أوروبا وفق ما صرّحت لمجموعة "فونكه الإعلامية". لكنّ زميلها في الحزب ميشائيل روت، وهو وزير الدولة المختص بالشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية الألمانية، رأى أنّ الحل الأوروبي لم يعد ممكناً وعبّر عن أسفه لما يحصل. وقال: "تخليت عن الأمل بأنّه يمكننا الاتفاق بصفتنا الاتحاد الأوروبي على آلية توزيع مناسبة"، مشدداً في حديث إلى القناة الأولى الألمانية على أنّه "لا ينبغي ترك إيطاليا وحدها، وهي البلد التي يصل إليه معظم المهاجرين، والاتحاد الأوروبي ملزم بالتضامن وتأدية دوره الإنساني". أضاف أنّ العمل يجرى منذ أشهر عدّة لإنشاء تحالف من الدول المستعدّة لاستقبال المهاجرين طالبي اللجوء، على أن يصار إلى التعاون مع دول مثل إيطاليا ومالطا اللتَين تملكان موانئ آمنة بالإضافة إلى اقتراح قيام تلك الدول بعملية توزيع المهاجرين على وجه السرعة.
توزيع على الدول الأعضاء
في السياق، دعا مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الهجرة والشؤون الداخلية والمواطنة ديميتريس أفراموبولوس في حديث إلى صحيفة "دي فيلت" الألمانية إلى إيجاد حلول سريعة للتعامل مع مهاجري القوارب الذين يتمّ إنقاذهم، واعتماد آليّة مؤقتة لتوزيعهم على الدول الأعضاء في الاتحاد، مضيفاً أنّه من غير الممكن أن تتحمّل إيطاليا ومالطا مسؤولية تحديات الهجرة لأنّهما تقعان على البحر الأبيض المتوسط. وقد حثّ الدول الأعضاء على تسريع عملها ووضع اتفاقات مبدئية حول كيفية التعامل من المهاجرين عندما يغادرون سفن الإنقاذ إلى حين تطبيق قواعد توزيع جديدة بين دول الاتحاد الأوروبي، لافتاً إلى أنّ اجتماعاً سوف يُعقد الأسبوع المقبل في هذا الخصوص. أمّا المتحدثة في شؤون الهجرة في الحزب الليبرالي في ألمانيا، ليندا تويتبرغ، فقالت في تصريحات إعلامية بأنّه لا ينبغي ترك خدمات الإنقاذ للمبادرات الخاصة، على أن يبقى توزيع المهاجرين على مستوى الاتحاد الأوروبي، مشددة على وجوب النظر في أسباب هروب هؤلاء من بلدانهم.
في موازاة ذلك، انتقدت منظمات الإغاثة فشل الدول في تحمّل مسؤولياتها الإنسانية، وهو ما أوضحه المتحدث باسم منظمة "سي ووتش" روبن نويغباور قائلاً إنّهم يواجهون باستمرار ما يُعَدّ أولوية، وهو إعادة المهاجرين إلى مخيمات التعذيب في ليبيا، بدلاً من إنقاذ الأرواح. من جهتها طالبت منظمة "برو أزول" الألمانية المدافعة عن حقوق اللاجئين، بوقف التعاون مع عصابات الإجرام التابعة إلى خفر السواحل الليبية. أمّا مدير العمليات على متن سفينة "سي ووتش 3" فيليب هان، فانتقد في تصريحات إلى صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية، السلطات الألمانية لعدم استعدادها القيام بعمليات إنقاذ بحري في البحر الأبيض المتوسط، مؤكداً أنّها كانت تملك متّسعاً من الوقت لتحقيق ذلك ومن دون الحاجة إلى منظمات غير حكومية تؤدّي هذا الدور. وشدّد على أنّ "الناس في أوروبا يريدون سياسة تظهر التعامل الإنساني مع تحديات أزمة الهجرة".