ما زال السوريون يختبرون النزوح في ظلّ الأزمة المستمرّة في البلاد، لا سيّما في الشمال السوري حيث هُجّر في الأيام الأخيرة عشرات الآلاف.
تغصّ الطرقات الواصلة بين ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي في سورية بالنازحين الهاربين من القصف الذي يستهدف مناطقهم والذي تُستخدَم فيه أنواع الأسلحة باختلافها، في ظلّ أوضاع إنسانية مأساوية، لا سيّما وأنّ المنظمات الإنسانية في غياب شبه تام تاركة عشرات آلاف النازحين لمصيرهم المجهول.
أمّ محمد دباس في الستينيات من عمرها، من هؤلاء المهجّرين السوريين، تقول لـ"العربي الجديد": "خرجنا من ريف إدلب الجنوبي تحت القصف، ونتّجه إلى عفرين (شمال غرب) علّنا نجد الأمان بعيداً عن القصف"، مضيفة أنّ "صوت الطائرات والانفجارات ما يزال في آذاننا، حتى الأطفال يشعرون بالرعب". وإذ تشير إلى أنّها نزحت مع زوجها وأبنائها وأحفادها، تؤكّد أنّ "لا وجهة محددة لدينا"، معربة عن أملها في "العثور على منزل أو خيمة لنتناول الطعام وننام بسكينة". من جهته، يخبر أبو عبد الله جابر في الخمسينيات من عمره، "العربي الجديد"، أنّ "الأربعاء الماضي وصلنا إلى أطمة (شمال) وقد استقللنا سيارة قريب لنا، لكنّنا لم نجد بعد منزلاً يؤوينا ولا خيمة، فوضعنا ما حملناه معنا تحت شجرة زيتون على مقربة من هنا". ويؤكد أنّ "المأوى اليوم أهمّ من المأكل والمشرب، ففي عائلتي نساء وأطفال في العراء".
أمّا أبو عبد الله معروف، وهو في أواخر الأربعينيات من عمره، فقد نزح واضعاً والدته وزوجته وأطفاله الستة وعائلة شقيقه المؤلفة من خمسة أفراد في جراره الزراعي. على مقربة من أحد مخيّمات أطمة، أوقف جراره وهو لا يدري إلى أين يذهب، بحسب ما يقول لـ"العربي الجديد". يضيف: "أمثالي كثر ممّن نزحوا من ريف حماة الشمالي أو ريف إدلب الجنوبي، والوضع مزرٍ جداً، ولا يوجد من يدلّنا على جهة نلجأ إليها أو مخيّم يؤوينا". ويؤكد أنّ "البقاء في العراء أمر كارثي. النساء والأطفال ينامون في عربة الجرار ونحن الرجال نفترش الأرض، فيما لا تتوفّر حمامات ولا خزانات مياه قريبة". ويتابع أنّ "أحد الأشخاص في المنطقة وعدني بالمساعدة لأجد غرفة أو خيمة، لكنّ الضغط كبير ولا أدري إن كان سيتمكّن من ذلك".
أبو عمر الأربعيني الذي نزح من ريف إدلب الجنوبي، يُعِدّ حظّه أفضل من حظّ غيره، إذ إنّ أحد أقربائه استضافه في منزل يستأجره مع ثلاث عائلات أخرى. يقول لـ"العربي الجديد": "على الأقلّ، وجدت مكاناً أضع فيه أطفالي، على الرغم من أنّ المنزل يتألّف من غرفتَي نوم وقاعة وهو بالكاد يتّسع لنا. لكنّه يبقى أفضل من العراء، إلى حين العثور على مكان آخر يؤوينا". ويحزّ في نفس أبو عمر أنّهم اضطروا إلى النزوح على أبواب شهر رمضان، "فعائلتنا تشتّتت. كنّا نأمل أن نقضيه معاً، لكنّ كلّ واحد من إخوتي وكذلك والدَيّ ذهبوا في اتّجاه، لعلّهم يجدوا مكاناً لهم". يضيف: "أشعر بالألم من أجل أمي وأبي اللذَين تجاوزا السبعين من العمر. هما كانا يأملان أن يزورنا أخي المقيم في تركيا وعائلته". لكنّ اليوم لا مكان لهم يجتمعون فيه.
يصف الرئيس السابق للمجلس المحلي في جرجناز بريف إدلب، حسين الدغيم، والنازح حالياً في معرة النعمان (شمال غرب)، لـ"العربي الجديد"، حركة النزوح من ريفَي حماة الشمالي والغربي بأنّها "الكبرى، في حين أنّ لا وجهة محددة لأفواج النازحين". ويشرح أنّ "منهم من لجأ إلى القرى القريبة من أماكن سكنهم الأصلية والتي لا يستهدفها القصف، ومنهم من توجّه إلى الشمال على مقربة من الحدود السورية التركية". ويلفت الدغيم إلى أنّ "الوضع الإنساني مأساوي بكلّ ما تعنيه الكلمة، والقصف الجوي فاقم المأساة، خصوصاً أنّ الطيران يحرم السكان من الاستقرار فلا يعلمون إلى أين يتوجّهون". ويبيّن أنّ "المساعدات الإنسانية تكاد لا تذكر، في حين أنّ الاحتياجات أكبر بكثير من إمكانات المجالس المحلية والجمعيات في المنطقة. يُذكر أنّ الناس يطالبون بخيام حتى يبقوا في محيط بلداتهم، من دون أيّ استجابة تذكر في هذا الإطار".
من جهته، يقول الناشط محمد الحموي، في اللطامنة بريف حماة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "السكان الذين تعرّضت مناطقهم للقصف نزحوا بمعظمهم من بيوتهم وتوجّهوا نحو المخيّمات في الشمال، في حين لجأت قلّة منهم إلى الأقارب في المناطق الآمنة". ويلفت إلى أنّ "ثمّة حركة نزوح مستمرة في اللطامنة اليوم، حتى لو أنّها أقلّ حجماً من التي حدثت قبل يومَين من جرّاء القصف. فالناس يحاولون التمسّك بمنازلهم، وعند المغيب يلجأون إلى المغاور وأقبية المباني". ويوضح الحموي أنّ "الوضع الإنساني سيئ بسبب الطيران الذي ما زال يحلّق في الأجواء، فيتسبب ذلك في حالة من الرعب الدائم". ويشير إلى أنّ "الناس يأملون بأن يتمكّنوا من حصاد محاصيلهم الزراعية، لما تشكّله لهم من دخل رئيسي. لكنّه مع استمرار القصف، فإنّ الوضع سوف يكون كارثياً".
أمّا هاني قطيني، وهو نازح من خان شيخون (شمال غرب) إلى منطقة قريبة منها، فيحاول زيارتها على دراجته النارية كلما تمكّن من ذلك. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "النزوح من هناك بدأ منذ شهر فبراير/ شباط، وأكثر من 80 في المائة من أهلها نزحوا منها حتى اليوم". ويلفت إلى أنّ "النزوح أمر مأساوي، خصوصاً لمن فقد عمله، لا سيّما أنّ أكثر من 40 في المائة من الأهالي يعانون الفقر، في حين تغيب المنظمات الإنسانية عنهم. ومن يتلقى سلالاً إغاثية، فهي لا تكفيه إلا لأيام قليلة".
في السياق، يفيد مصدر من مخيمات أطمة للنازحين في الشمال السوري، فضّل عدم الكشف عن هويته، "العربي الجديد"، بأنّ "لا أماكن لاستقبال النازحين الجدد، فحركة النزوح كثيفة جداً ولا يمكن استيعاب الجميع في المخيمات. فالكثافة البشرية في مخيمات أطمة بالأساس كبيرة، وفي الوقت عينه لا تتوفّر جهات تعمل على مساعدة النازحين الجدد بالتزامن مع تزايد عددهم بصورة كبيرة". ويلفت إلى أنّ "النازحين من كل قرية ومدينة في ريف إدلب الجنوبي وريفَي حماة الشمالي والشمالي الغربي، يحاولون اللجوء إلى أقاربهم أو معارفهم، لكنّ ثمّة عدداً ليس بقليل يبقى في العراء تحت الأشجار في الأراضي الزراعية". ويوضح المصدر نفسه أنّ "ثمّة أماكن للإيواء المؤقت في مخيمات أطمة، لكنّها غير كافية في ظلّ استمرار النزوح"، لافتاً إلى أنّ "المشكلة الكبرى اليوم هي في شبه عزوف المنظمات الدولية عن الاستجابة وسط النزوح الكبير، في وقت تغلق تركيا حدودها في وجه النازحين، وهو أمر سوف يفاقم الكارثة الإنسانية".
وكان المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ديفيد سوانسون، قد قال في تصريح صحافي أخير لوكالة "فرانس برس" إنّه "منذ فبراير/ شباط الماضي، نزح أكثر من 138 ألفاً و500 امرأة وطفل ورجل من شمال حماة وجنوب إدلب"، لافتاً إلى أنّ من بين هؤلاء 32 ألفاً و500 شخص فرّوا ما بين الأول من إبريل/ نيسان والثامن والعشرين منه.
أمّا منظمة "منسقو الاستجابة في سورية"، فقد أفادت في تقرير لها حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه، بأنّ "عدد النازحين من المنطقة المنزوعة السلاح من جرّاء العمليات العسكرية الأخيرة وصل إلى أكثر من 216 ألف مدني، في حين بلغ عدد الضحايا أكثر من 312 مدنياً من بينهم 107 أطفال (ذكور وإناث)، أكثرهم سقطوا في محافظة إدلب". وأدانت المنظمة استمرار الأعمال العسكرية "العدائية" من قبل قوات النظام السوري والروس، محذّرة من ارتفاع عدد النازحين نتيجة استمرار القصف. وقد عدّت استهداف المنشآت الحيوية "جريمة حرب" تستوجب محاكمة مرتكبيها، بالإضافة إلى تصنيف مساعي الروس والنظام إلى إفراغ المنطقة من ضمن جرائم التهجير القسري. وطالبت المنظمة في تقريرها كل الجهات الإنسانية المحلية والدولية بالوقوف مع السكان المدنيين في الشمال السوري والنازحين الذين يزداد عددهم بصورة يومية وبوتيرة مرتفعة.
من جهته، أصدر "الدفاع المدني السوري" بياناً قبل يومَين، جاء فيه أنّ مدن الشمال السوري شهدت تصعيداً عسكرياً على المدنيين والمراكز الحيوية والمرافق العامة، فسقط 18 شهيداً في خلال الأيام الثلاثة الماضية بالإضافة إلى عشرات الجرحى من جرّاء الغارات الجوية والقصف المدفعي من قبل النظام السوري والقوات الروسية. أضاف أنّه كنتيجة لذلك، هُجّر داخلياً أكثر من 100 ألف شخص لاحقتهم الطائرات الحربية لقصف أماكن نزوحهم.