شوارع دمشق... تحرّش وإدمان وتسوّل وانحلال أخلاقي

10 ابريل 2019
تغيرت الشام عمّا كانت عليه (Getty)
+ الخط -

سرعان ما يلحظ زائر العاصمة السورية دمشق أنّها ما زالت مثقلة بتركة سنوات من الأحلام والصراعات، بينما تختنق المدينة بسكانها، وبحالات غريبة عنها، ما أفقدها حميمية لطالما امتلكت قلوب الجميع في البلاد.

راوية (27 عاماً) ابنة دمشق والموظفة الملتزمة بلباس محتشم، تجد أنّ العاصمة السورية قد تغيرت كثيراً عما كانت عليه قبل ثماني سنوات. تقول لـ"العربي الجديد": "بات السير في كثير من شوارع دمشق مزعجاً، خصوصاً للفتيات، فلا يكفينا الازدحام الشديد، بل نتعرض لتحرش مختلف الأشكال". توضح: "بات من الطبيعي أن تجد مجموعة من الشبان يرصدون الفتيات جيئة وذهاباً، ويضيّقون عليهن المسير في الشارع، ومنهم من يتبعون الفتاة مسافة طويلة ويحاولون أن يتحدثوا معها عنوة، أو أن يأخذوا رقم هاتفها، حتى إنّ هناك فتيات يشعرن بالرعب من السير وحدهن".

تضيف راوية: "عندما كنت في الجامعة، كانت الفتيات يتعرضن لمثل هذه المواقف، لكنّها كانت مستهجنة ونادرة الحدوث، لكن في الوقت الحالي، بات الأمر المعتاد هو التعرض شبه اليومي للتحرش". تلفت: "غالباً، فإنّ المتحرشين هم إما فتية في مقتبل العمر، أو شبان يبدو من طول لحاهم أو ملابسهم، أنّهم مقاتلون في فصيل ما". تضيف: "تتجاهل معظم الفتيات المتحرشين، وغالباً ما يتكتمن على ما يتعرضن له، كي لا يكنّ السبب في مشاكل، لكن في بعض الأحيان تلجأ الفتاة للاحتماء بالمارّة أو أحد الحواجز أو الصراخ بوجه المتحرشين، خصوصاً إن كان في الشارع مارّة، علّها تخيفهم فتتخلص منهم".

من جهته، يقول ماهر (37 عاماً)، وهو مهندس مدني يسكن في دمشق منذ 20 عاماً، لـ"العربي الجديد": "من دون مبالغة، فدمشق منذ سكنتها كنت ألحظ بعض الأشياء غير السوية أو المزعجة إن صح التعبير، كبعض المتسولين أو المشردين أو المتسكعين. لكن اليوم اختلف المشهد، وأصبح أكثر فجاجة وانتشاراً، فيكاد لا يخلو شارع من المتسولين وخصوصاً الأطفال، حتى إنّهم يدخلون إلى المقاهي والمطاعم، فلم نعد نميز أصحاب الحاجة الحقيقية عن المحتالين". يضيف ماهر: "لي صديق ناشط في إحدى منظمات العمل المدني، أخبرني أنهم كانوا يعملون على مشروع لإعادة الأطفال المتسولين إلى الدراسة، وكنوع من التشجيع هناك مبلغ مالي مكافأة للطفل الذي يلتزم بالدوام، يبلغ ألف ليرة سورية (دولارين أميركيين)، لكن المفاجأة أنّ أقل طفل من بينهم كان يحصل من التسول على أربعة أو خمسة آلاف ليرة في اليوم الواحد، أي أضعاف راتب الموظف لدى الحكومة، لكنّه مع ذلك مبلغ لا يكفي للحصول على عيش كريم".



وكانت رئيسة الفريق التطوعي لرصد حالات التسول والتشرد في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل فداء دقوري، قد ذكرت في تصريح صحافي، أنّ حالات التسول التي جرى رصدها والتعامل معها من قبل الفريق بلغت 100 حالة بين شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول الماضيين. وأشارت إلى أنّ مجمل الحالات التي جرى تحويلها إلى مراكز المتسولين في الأشهر العشرة الأولى من 2018، بلغت 500 حالة في دمشق وريفها، مؤكدة استمرار الوزارة في حملة رصد حالات التسول والتشرد ومكافحتها. وأضافت أنّ أيّ حالة تصل إلى الوزارة يجري التعامل معها فوراً، سواء أبلغ عنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عن طريق الكوادر المنتشرين في الشوارع، لافتة إلى أنّ أغلب الحالات هي لأشخاص محتاجين فعلاً. في المقابل، يعتبر ناشطون أنّ عمل الوزارة ضعيف جداً وليس ذا جدوى، بالرغم من صدور قانون جديد، أوائل العام الجاري، فشوارع دمشق تغصّ بالمتسولين والمتشردين ولا أحد يأبه بهم، ومنهم من يعيشون على الأرصفة.

ليس الحديث مع المتسولين سهلاً، فهؤلاء متوجسون، ويحاولون إخفاء أسمائهم الكاملة وأماكن إقامتهم. لكن عقب عدة محاولات، تحدثت مها مع "العربي الجديد"، وهي فتاة لم تكمل عامها الرابع عشر، قائلة: "أعمل في هذه المنطقة منذ خمس سنوات تقريباً، ومعي إخوتي الثلاثة. أبي فقد في ريف حلب منذ زمن وأتينا مع أمي إلى دمشق، فنساعدها في تأمين إيجار المنزل ومصاريفنا اليومية". تذكر أنّ أخاها الصغير يذهب إلى المدرسة فقط: "كنت أتمنى لو استطعت أن أتابع المدرسة، لكنّ ظروفنا سيئة جداً، وأمي لا تستطيع وحدها أن تؤمّن حاجاتنا، بل يجب أن نساعدها".




ليس بعيداً عن مها، يقف عبد الله (11 عاماً) يحمل بيده قطعتين من البسكويت، يعرضهما للبيع، وغالباً ما يعطيه المارّة المال من دون أن يأخذوا منه شيئاً. لكن في حال أخذها منه أحدهم، وطبعاً هو يبيعها بضعفي سعرها الأصلي، يذهب إلى الدكان القريب ليشتري بدلاً منها. هكذا يمضي يومه منذ أشهر. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه لا يعلم شيئاً عن عائلته منذ أكثر من عام، وإنه ينام في نفق مشاة قريب من مكان تسوّله.

بدوره، يعرب أبو زهير (32 عاماً)، وهو موظف ولديه طفلان، عن قلقه على مستقبل أبنائه: "بتنا نسير في الشوارع قلقين، ولا نعلم أيّ مستقبل ينتظرنا، فتجد شباناً بأعمار مختلفة يتناولون المشروبات الكحولية في الشوارع، ومنهم من يحتمي بالزي العسكري، وآخرون يتناولون الحبوب المهلوسة، وهناك إدمان من نوع آخر ينتشر بين الأطفال وخصوصاً المشردين، وهو تنشق أبخرة الموادّ اللاصقة المعروف بالشعلة، فتجد الطفل يضع القليل من الشعلة في كيس بلاستيكي أو عبوة بلاستيكية ويستنشق ما يصدر منها من أبخرة، ويقال إنّ لها المفعول نفسه لحبوب الهلوسة، التي تعدّ أغلى وأكثر صعوبة للحصول عليها". يتساءل: "أيّ جيل تنتظره المدينة؟ أعتقد أنّ لدينا جيلاً من المجرمين، سيظهر خلال السنوات المقبلة، وسيكون خطره أكبر من الحرب التي عشناها في السنوات الأخيرة".



تفيد مصادر طبية بأنّ لاستنشاق مادّة الشعلة تأثيراً مشابهاً للأدوية المهدئة والمشروبات الكحولية، فيتولّد لدى المتعاطي إحساس بالنشوة، يرافقه إحساس بالدوار المحبب، وذلك بحسب الكمية التي جرى استنشاقها، وقد تطول هذه الحالة إذا ما كان الشخص يداوم على استنشاق هذه المادّة على مدار اليوم بأوقات متتالية". وتلفت المصادر إلى أنّ هذه النشوة تتضمن لدى بعض الأشخاص، فقداناً للتوازن واضطراباً في الأفكار، وصعوبة في إدراك الألوان والأصوات والأشكال، وقد ترافق ذلك هلوسة بصرية وسمعية. وتوضح المصادر نفسها أنّ لاستنشاق الشعلة آثاراً جانبية عديدة منها، تضرر الأغشية المخاطية، بالإضافة إلى السعال الشديد وآلام الرأس، والتقيؤ المتكرر. ومع جلسة استنشاق طويلة، تتسبب الموادّ الكيميائية الواصلة إلى المخ في فقدان الوعي. وعندما يستيقظ المتعاطي لا يتذكر ما حدث معه خلال جلسة الاستنشاق، كما قد يؤدي استنشاق كمية كبيرة من تلك الموادّ إلى الموت، من جراء نقص نسبة الأوكسجين في الدم، فيما تتسبب الأبخرة التي تتسرب إلى الدورة الدموية بتلف الأعضاء التي تلامسها كالرئتين والقصبة الهوائية والكبد والكليتين والمخ.

أمّا مريانا (22 عاماً)، وهي طالبة في كلية الطبّ، فترى أنّ المشكلة الكبرى أنّ المجتمع أو جزءاً منه يعاني من الانحلال الأخلاقي: "هناك انحدار بمستوى الآداب العامة في دمشق، حيث تفاقم انتشار كثير من الممارسات المنفرة، كالتبول في الشوارع أمام المارّة، من دون أيّ حياء، حتى باتت هناك مناطق يكاد الشخص يختنق فيها من رائحة البول، ولا أحد يعمل على إنهاء هذا الوضع، فلا الشرطة تلاحق هؤلاء، ولا البلدية تنظف تلك الأماكن القذرة، التي تقع في قلب العاصمة". تضيف: "حتى القمامة باتت تنتشر في كثير من مناطق العاصمة، بل أصبحنا نحفظ تلك التجمعات، وخصوصاً في الأماكن المزدحمة التي تحولت إلى كراجات للنقل، كمنطقة جسر الرئيس والفحامة وسوق الهال القديم، وسوق الحرامية وغيرها من مناطق".




وتتابع مريانا: "هناك مشكلة كبرى نعاني منها في دمشق، وهي الازدحام الشديد، فأنا أستغرق ما بين ساعة وساعة ونصف يومياً لأصل إلى جامعتي، ووسائل النقل العامة مزدحمة جداً، بسبب قلة عددها، فغالباً ما أنتظر نصف ساعة أو أكثر لكي أحصل على فرصة لركوب الحافلة. مشهد هجوم الناس على الحافلة وكيف يقع البعض في الشارع، يشعرني بالرعب، وبالطبع فإنّ ركوب سيارة أجرة مكلف جداً بالنسبة لي، إذ تبلغ 12 أو حتى 15 ضعف كلفة الحافلة". تضيف: "نعاني أيضاً من الاختناق اليومي بسبب عوادم السيارات التي باتت لا تطاق، فتجد المركبات، خصوصاً وسائل النقل العام من حافلات وسيارات أجرة، تطلق خلفها غيوماً من الدخان الأسود الكثيف، وليس هناك من محاسب".