قصة ولاتة... مدينة في موريتانيا تقاوم الزمن

25 مارس 2019
لطالما كانت مركزاً علمياً (العربي الجديد)
+ الخط -

وسط كثبان رملية مترامية الأطراف، تتراءى للناظر من بعيد مدينة ولاتة، التاريخية، على بعد 1300 كيلومتر، شرق العاصمة الموريتانية نواكشوط، بالقرب من حدود مالي

ظلت مدينة ولاتة في عمق الصحراء الموريتانية بالقرب من الحدود المالية، عبر عدة عصور، محطة إشعاع علمي وحضاري، وملتقى للتجارة بين العالم العربي وأفريقيا، لكونها إحدى أربع مدن تاريخية في البلد، تقع على خط طريق القوافل الصحراوية قديماً، قبل أن تتحول ولاتة إلى مدينة منسية تعاني كثيراً من المشاكل.

يُرجع العديد من المؤرخين تاريخ إنشاء ولاتة إلى القرن الأول الميلادي، إذ كانت تُعرف باسم "بيرو"، وتشهد حينها ازدهاراً كبيراً بسبب موقعها الاستراتيجي، وهو ما دفع الرحالة ابن بطوطة إلى زيارتها واستكشافها والكتابة عنها وعن تاريخها، واصفاً ازدهارها التجاري، بحكم موقعها بين مملكة مالي وسجلماسة المغربية الأثرية حالياً، والواحات المغربية: "تأتيهم القوافل من بلاد السودان (أفريقيا الغربية)، فيحملون الملح، ويباع الحمل منه في ولاتة بثمانية مثاقيل إلى عشرة، ويباع في مالي بعشرين مثقالاً، وربما يصل إلى أربعين مثقالاً، وبالملح يتصارفون كما يتصارف بالذهب والفضة، يقطعونه قطعا ويتبايعون به".



تميزت ولاتة قديماً بنهضة كبيرة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حتى أضحت أحد أهم المراكز العلمية والثقافية في العالم الإسلامي، لما احتضنت من الفقهاء والعلماء والمؤرخين، ولما حوت من المخطوطات العلمية والمدارس القرآنية في ذلك الوقت.

يقول عابدين ولد محمد السالك، إنّ "مدينة ولاتة التاريخية تعاني اليوم من العزلة، بفعل عدة عوامل، من أبرزها هجرة السكان الذين غادر أغلبهم إلى كبريات المدن والعاصمة نواكشوط، نظراً للإهمال المتواصل الذي لحق بالمدينة من طرف الحكومات المتعاقبة، وكون المدينة تقع في صحراء بعيدة لم تعبّد باتجاهها الطرقات بعد، ولم توفر لها بنية تحتية تناسب مكانتها وسمعتها التاريخية، التي عبرت الحدود إلى مختلف القارات". يؤكد ولد محمد السالك، وهو أحد سكان المدينة، لـ "العربي الجديد"، أنّ الواقع المزري الذي كانت تعيشه ولاتة بدأ يتحسن قليلاً بفعل التفاتة الجهات الرسمية إلى المدينة، عبر مهرجان ثقافي، في محاولة للفت الانتباه إلى أهمية إحيائها، ووقف النزوح منها. ويشير إلى أنّ عوامل الإحياء هذه ما زالت تفتقر إلى كثير من المقومات لترى هذه المدينة النور من جديد، وتعود إلى ألقها القديم الذي قادها إلى مصاف الشهرة العالمية.



وأطلق في موريتانيا مهرجان المدن التاريخية السنوي في عام 2011، للاحتفاء بتاريخ أربع مدن، هي وادان، وولاتة، وشنقيط، وتيشيت، واحتضنت مدينة ولاتة الدورة الثامنة من المهرجان سنة 2018، وجرى خلاله تسليط الضوء على تراث المدن القديمة وجعلها رافداً سياحياً مهماً في البلاد.

يضيف ولد محمد السالك أنّ "من يأتي إلى مدينة ولاتة اليوم يجدها مدينة محاصرة بالرمال من كل الاتجاهات، بسبب الإهمال، فلا طريق معبداً باتجاه المدينة، ولا مطار مجهزاً لتنظيم رحلات جوية منها وإليها. وهكذا، باتت تمثل مدينة تاريخية مهملة، بعدما ظلت طريقاً للقوافل التجارية، ومركز إشعاع علميا يسكنها مئات الفقهاء والعلماء والمفكرين، وتوجد بها أهم المكتبات العلمية الموريتانية والمحاظر (الكتاتيب القرآنية)، التي خرّجت آلاف الطلاب والباحثين منذ مئات السنين".



بدوره، يعتبر المؤرخ والباحث الموريتاني سيد أعمر ولد شيخنا، أنّ مدينة ولاتة التاريخية تعاني من نقص كبير في الخدمات التنموية، فبالرغم من التحسن النسبي في السنوات الأخيرة على مستوى بعض خدمات الكهرباء والاتصالات، وإعادة إحياء الثقافة من خلال مهرجان المدن القديمة، فما زالت تعاني من العطش الشديد، وقد تم حرمانها من الاستفادة من مشروع "أظهر" الاستراتيجي الهادف إلى تزويد بعض القرى والمدن الشرقية بمياه الشرب، بالرغم من أنّ المدينة قريبة جغرافياً من منابعه الرئيسة.

يؤكد ولد شيخنا، لـ "العربي الجديد"، أنّ ولاتة "تعاني أيضاً من غياب طريق معبّد يربطها بعاصمة الولاية (مدينة النعمة شرقي موريتانيا)، كما تحتاج ولاتة إلى بناء طرقات داخلية معبدة بالإسفلت، وهو أمر سهل، نظراً لصغر حجم المدينة". وفي ما يخص الجانب الثقافي، يضيف ولد شيخنا، أنّ هناك حاجة لترميم الجامع الكبير فيها، ودعم المكتبات الولاتية، ورقمنة التراث الولاتي المخطوط.




وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) قد صنّفت المدن التاريخية الأربع في موريتانيا: وادان، ولاتة، تيشيت، شنقيط، ضمن التراث العالمي، عرفاناً بدورها التاريخي ومكانتها، وتقديراً لما أسهمت به في الحضارة العالمية من فن معماري ومخطوطات نادرة ومعالم سياحية متميزة.