مع خيوط الشمس الأولى، يتناول الشاب ما تبقى من عشاء الأمس ليتوجه إلى الشارع المؤدي إلى ساحة التحرير، وينتظر من يحتاجه لأداء خدمة معينة، فقد يعمل في البناء أو السباكة أو فتح المجاري أو ما يعرف محلياً "نزّاح طهارات"، وهذا يعني بالضرورة عدم معرفته بما سيجني من أجر مالي، بسبب اختلاف الأجور حسب نوعية الخدمة المطلوبة.
يقول علي اسماعيل (27 عاماً) لـ"العربي الجديد"، إنّ "الوضع الاقتصادي المتردي وعدم توفر فرص العمل في ذي قار، بالإضافة إلى احتكار الأعمال من قبل جهات حزبية، دفعني إلى التوجه نحو بغداد، عسى أن تتوفر فيها فرص أكثر"، مبيناً أن "الحياة فيها تحتاج إلى أموال كثيرة، إذ إنها غالية قياساً بمناطق الجنوب، فضلاً عن الإيجار اليومي الذي لا بد من دفعه لصاحب الفندق الذي يرفض استلام المبلغ بصيغة أسبوعية أو شهرية، فهو يعتقد أننا سنهرب في أي لحظة وعلينا دفع مبلغ المبيت عنده قبل منتصف الليل، من كل يوم".
ويضيف "زملائي في السكن، كلهم من محافظات جنوب البلاد، واثنان منهم، تخرجا من كليات، وهما يحملان شهادات ولكن تردي الأحوال المعيشية في مناطقهم أجبرهم على الاسترزاق في العاصمة"، مشيراً إلى أنّ "معدل دخل الواحد منهم، حوالي 25 ألف دينار عراقي في اليوم، أي ما يعادل (20 دولاراً أميركياً)، يذهب من الأجر 7 دولارات مقابل السكن كل ليلة في غرفة تفتقر لوسائل الراحة، حيث إنها باردة ورطبة وقت الشتاء وجافة وحارة وقت الصيف، وتذهب نحو 5 دولارات للأكل، ولا يتبقى في نهاية الشهر إلا أقل من 250 دولاراً تقريباً، يبعثونها إلى أهاليهم في الجنوب، وهذا في حال إيجادنا للعمل على طول أيام الشهر، إذ تمرّ بعض الأيام دون عمل، فنعود إلى مبيتنا".
حكاية علي يتقاسمها مع العديد من شباب العراق، الباحثين عن قوت يومهم من"المسطر" وهو ساحة وقوف العمال في الباب الشرقي وباب المعظم والثورة والكاظمية، يقف فيه العمال بانتظار من يحتاجهم، لينفذوا أي شيء، سواء كان يتعلق بالبناء أو التوصيل، ويمكن لأي بغدادي أن يأتي إلى الباب الشرقي ويأخذ ما يحتاج من العمال، وغالبيتهم من محافظات متفرقة، دفعتهم ظروف الحياة إلى الوقوف في "المسطر".
ويقول علي الذي لم يتوفق في إتمام دراسته الثانوية، إنّ "الفندق الذي يسكن فيه بالبتاويين، لا يضم عمالاً لم يكملوا دراستهم فقط، إذ يحوي مهندسين ومعلمين، وغيرهم، وهم مثل غيرهم يبحثون صباحاً عن فرصة عمل"، مستطرداً "تقريباً ثلاثة أشخاص من أصل خمسين عاملاً يسكنون الفندق، أصحاب شهادات عليا، ولكن عدم توفر التعيين الحكومي بالإضافة إلى احتكار الوظائف في المجالات الأهلية وهزالة رواتبهم، كلها عوامل دفعتهم إلى العمل في الشارع والمساطر".
ولا يسعى علي أن يكون ثرياً مترفاً، بل يؤكد لنا أنّ "أقصى غاياته الحصول على وظيفة ثابتة في مدينته ذي قار، بمرتب جيد، يمكن من خلالها العيش بطريقة كريمة ومحترمة، وأن يستقل مادياً".
ورغم ما يمرّ به علي من ظروف اجتماعية صعبة، إلا أنه لا يخفي حزنه على بعض الشباب العاملين معه، "انحرفوا وصاروا يتاجرون بالمسروقات وحتى المخدرات"، ويقول إنّ "شبابا وفدوا من محافظات مختلفة، ذاقوا المر من المعيشة الصعبة، والعمل على طريقة الصدف، تورط بعضهم في أعمال غير قانونية، مثل بيع الحبوب المخدرة، والمتاجرة بالأثاث المنزلي المسروق، أو التحف، فضلاً عن تورط آخرين بالسرقة، وحالياً نعرف من هو ملاحق من قبل القوات الأمنية، بسبب شكاوى من مواطنين وأصحاب محال تجارية للقضاء بتعرضهم للسرقة مع أسماء السراق".
هذا الوضع، يعتبره أحد رفاق علي "طبيعياً، بسبب الفقر، وأن للشباب طموحا وحاجة للمال وشراء ما يلزم من ملابس فضلاً عن التنزه والاسترخاء، بالإضافة إلى غيرها من الاحتياجات ولعل أبرزها الزواج والاستقرار".
ويتابع "الأوضاع الاجتماعية تدفع إلى الانفجار، خصوصاً أنّ الحكومة والمسؤولين لا يهمهم إلا أنفسهم، ولا يقدمون غير أسماء أقاربهم وحواشيهم للتعيينات في السلك الحكومي أو حتى المشاريع الخاصة التي تحتاج إلى كوادر أو خريجين أو عمال".
ويضيف "حتى المعونات التي تطلقها الحكومة العراقية للعاطلين عن العمل وهي لا تتعدى مبالغ زهيدة لا تكفي لسد احتياجات البيت الأساسية لأسبوع واحد، وقد صارت حكراً لجماهير الأحزاب وحدهم، وتم اختيارهم بعد أن مروا بالمكاتب الحزبية، وأعطوا ضمانات بأنهم سينتخبون ممثلهم في الانتخابات المقبلة".