عاد سوريون إلى الخدمة العسكرية التي لم يلتحقوا بها أو فروا منها، بهدف تسوية أوضاعهم والتمكن من إنجاز أوراقهم الرسمية، إذ إنّ الخدمة تقف عقبة أمامهم.
توصّل حسام ق. (34 عاماً)، قبل نحو شهر، إلى قرار حاسم حول الالتحاق بالقوات النظامية في سورية، بعدما مضى على فراره من الخدمة الإلزامية نحو خمس سنوات، أمضاها في منزله ومحيطه في معظم تلك الفترة، وقلما تسلل خارج الشارع الذي يسكن فيه للابتعاد مئات الأمتار فحسب. يحاول في قراره هذا الاستفادة من العفو الذي أصدره الرئيس السوري، بشار الأسد، القاضي بإلغاء العقوبة عن الفارين والمستنكفين عن الخدمة العسكرية، والذي انتهى سريانه في التاسع من فبراير/ شباط الجاري، بعد اكتمال فترة الأشهر الأربعة، وهي الفرصة التي منحت للالتحاق.
يقول حسام، الذي طلب عدم الكشف عن هويته الكاملة لأسباب أمنية، في حديث مع "العربي الجديد": "لم تكن لديّ القدرة على الاحتمال أكثر، فقد مضت السنوات الخمس على أمل أن تحلّ الأزمة السورية، وتتوقف الحرب البشعة، لكن لم تحلّ الأزمة كلياً بالرغم من تراجع وتيرة المعارك، في حين أصبح لديّ طفلان، لم أكن حاضراً على ولادتهما، ولم أستطع تسجيلهما قانونياً بسبب عدم تسجيل زواجي في الأصل، فقد تزوجت وأنا عسكري، والعسكري الذي يؤدي الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية لا يمنح موافقة على الزواج. وهذا كان يقلقني جداً، بالرغم من أنّ لديّ دخلاً مقبولاً، لكنّ الجلوس في المنزل وعدم القدرة على التحرك في إطار محدود والقلق الدائم من اعتقالي أو مداهمة المنزل الذي أقيم فيه، بالإضافة إلى عدم وجود حلّ قريب في الأفق، دفعني إلى الالتحاق".
يضيف حسام: "وبالفعل، في الأسبوع الأول، سلمت نفسي إلى الشرطة العسكرية في دمشق، وكنت أعتقد أنّ الأمر قد يستغرق يوماً أو يومين في الأكثر، لتجري تسوية وضعي، مع إعطائي أمر مهمة للالتحاق بقطعتي العسكرية، لكنّ الأمر ليس كما يسوّق النظام له، إذ جرى توقيفي في غرفة مساحتها نحو 20 متراً مربعاً فيها نحو 50 شخصاً، طوال 15 يوماً، إلى أن حان دوري بالعرض على القاضي، فتبين له أنّ ملفي ينقصه بيان وضع (إفادة تصدر عن شعبة التجنيد)، ما أعادني إلى تلك الغرفة 14 يوماً أخرى، وكانت أفضل بألف مرة من الثلاثة أيام التي أمضيتها في مبنى المدرسة بانتظار المندوب، وهو من يأخذ من ينال أمر ترك من القاضي إلى قطعته، أو من يأخذ من يكون عليه طلب أمني للجهة الأمنية المحددة". يوضح: "في توقيف الشرطة العسكرية، كانت الزيارة ممنوعة، وكان من الممنوع علينا أن نطمئن عائلاتنا، ما شكل ضغطاً نفسياً شديداً علينا. كذلك، لا يتوفر مكان للاستحمام، وكانت الرعاية الطبية معدومة، وغالبية من كانوا موقوفين مرضى سعال والتهاب حنجرة وبلعوم. أذكر أنّ أحد الموقوفين أغمي عليه، فاكتفى الجنود بسكب الماء البارد عليه، لكنّهم لم يقدموا له حبة دواء. وحتى أنا كان في حقيبتي دواء لمرض جلدي لم يسمحوا لي بالحصول عليه".
يتابع حسام: "مسألة الطعام كانت جيدة نوعاً ما، فكانت كمية الطعام غنية، وكان عسكري الندوة (الدكان) يبيع بعض المعلبات والبسكويت بأسعار مضاعفة. في المدرسة حيث انتظرت المندوب، تركنا من الصباح حتى المساء من دون طعام، بحجة أنّنا لم نعد على ملاك الشرطة العسكرية، ثم جاءت الندوة وباعتني شطيرة بالكاد يمكن أكلها، بأربع أضعاف سعرها في السوق". يلفت إلى أنّ "الوضع فوضوي جداً في الشرطة العسكرية، وهناك نقص في غالبية الملفات، بينما استكمالها يحتاج لأيام إن لم يكن أسابيع، وتدخل ضمنها مسألة الواسطة والرشوة، فيتقدم دور ناس على ناس، ومن لا يملك المال عليه الانتظار وتجرّع المرارة".
من جهته، يقول علاء أ. (24 عاماً) الذي طلب عدم الكشف عن هويته الكاملة لأسباب أمنية، لـ"العربي الجديد": "سلمت نفسي في مركز الشرطة العسكرية في السويداء، إذ كنت أخدم مجند احتفاظ، وكان الوضع مزرياً جداً، فغرف التوقيف قديمة صغيرة، والمساحات غير محكمة الإغلاق، في كلّ منها عشرات الموقوفين. كان البرد شديداً، وكنت أشعر في الليل أنّ أطرافي تتجمد، بل شعرت أنّ البرد سيقتلني، فلم تكن هناك أغطية تكفي الجميع".
يتابع: "لم يكن هناك طعام لنا. كانوا يتركوننا حتى فترة بعد الظهر ليأتي العسكري المسؤول عن الندوة، فأشتري منه شطيرة الفلافل بـ1500 ليرة سورية (نحو 3 دولارات)، وعلبة البسكويت بألفي ليرة (نحو 4 دولارات)، فأنا أعاني من انخفاض السكر، وعلبة السجائر من أسوأ الأنواع بألف ليرة (نحو دولارين). عشت على هذا الطعام طوال اليوم، على مدار خمسة أيام، وحولت بعدها إلى القاضي، والتحقت بالقطعة العسكرية التي كنت أخدم فيها، وهناك بدأ أحد الضباط بالمزايدات الوطنية والاتهامات من كلّ الأشكال بدءاً من الجبن إلى الخيانة، وسيل من الوعيد والتهديد لمن يفرّ مجدداً. كانت لحظات مريرة جداً، فهو الضابط نفسه الذي كان لا يمنحني إجازة إلاّ مقابل هدية، وكان يسرق مخصصاتنا من الطعام".
بدوره، يقول أبو مهند حاتم وهو والد شاب فرّ من الخدمة العسكرية الاحتياطية منذ عام وسلّم نفسه قبل نحو 10 أيام للشرطة العسكرية في حلب: "لا أعلم حتى اليوم لماذا لم يتصل بنا، لقد دمروا مستقبله، كان يعمل محاسباً في شركة خاصة، وراتبه الشهري أكثر من 200 ألف ليرة (390 دولاراً)، بالإضافة إلى أعمال أخرى، وهو متزوج ولديه طفلان. قُبض عليه قبل عامين عند أحد الحواجز في دمشق، وسيق للخدمة العسكرية، وبقي نحو عام من دون أن يصرف راتبه، وكان يخدم في منطقة تحت سيطرة إحدى المليشيات الأجنبية، فكانوا يطعمونه ويقدمون له مبلغاً مالياً صغيراً كمعونة، لكن عندما نقلوه من مكانه لم يعد يستطيع أن يستمر في الخدمة، فلا أكل ولا راتب، بالإضافة إلى مسؤولية عائلة لا يستطيع أن يقدم لها شيئاً". يضيف: "أحدهم طلب مني مبلغ 25 ألف ليرة (49 دولاراً)، ليعجّل بعرضه على القاضي، وعاد ليطلب 15 ألفاً (نحو 30 دولاراً) لاستكمال ملفه، وقبلت بالرغم من أنّ المبلغ كبير على متقاعد مثلي. وعدني أن يطلق سراحه قريباً جداً، لكنّي أخشى أن يكون في الأمر خديعة، فأحد أصدقائي، طُلب منه مبلغ مالي أيضاً، ووعدوه أكثر من مرة، وفي كلّ مرة كذبوا الوعد".
تجدر الإشارة إلى أنّ الأسد أصدر في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مرسوماً تشريعياً يقضي بمنح عفو عام عن مرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكرية، ويشمل القرار المتوارين عن الأنظار والفارين من وجه العدالة إذا سلموا أنفسهم خلال أربعة أشهر بالنسبة للفرار الداخلي، وستة أشهر بالنسبة للفرار الخارجي.