انتهاكات الأمن اللبناني... الحراك الثوري يفتح ملف التعذيب

21 نوفمبر 2019
اعتداءات عدة سجلت (حسين بيضون)
+ الخط -

انتفض اللبنانيون قبل أكثر من شهر ضدّ الطبقة السياسية الطائفية، لمحاسبة الفاسدين، وتشكيل حكومة تعبّر عن مطالبهم. لكنّ القوى الأمنية والقوات المسلحة ترتكب كثيراً من الانتهاكات بحقهم

بعد مرور أكثر من شهر على الحراك الشعبي الثوري في لبنان، رصدت عشرات التوقيفات، وحالات عدة مارست فيها القوى الأمنية والجيش عنفاً واضحاً، بالإضافة إلى انتهاكات لحقوق الموقوفين، وممارسة العنف اللفظي والجسدي بحقهم، الذي يرقى إلى التعذيب، ما يعيد فتح ملف الانتهاكات في لبنان على مصراعيه، ضارباً الصورة النمطية التي عادة ما تحيط بلبنان وتصفه بأنّه واحة حرية في المنطقة، على الرغم من تقارير دورية من جهات دولية حتى قبل انطلاق الثورة تشير إلى حالات تعذيب.




خرق للقوانين
تبدأ الانتهاكات فعلياً من "عدم تدخل القوى الأمنية والعسكرية لحماية المنتفضين من اعتداءات المدنيين المناصرين لأحزاب السلطة"، وفق ما أشارت إليه لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين في لبنان في بيانها الأخير، وصولاً إلى "الإفراط باستخدام القوة والقنابل المسيلة للدموع عبر قوى مكافحة الشغب، واستخدام الضرب عبر عدة عناصر أمنية وعسكرية، ومن بينهم من هم بزي مدني، حتى بعد تكبيل الموقوفين، واستهداف الوجه والرأس والمؤخرة ومختلف أعضاء الجسد بالضرب، واستهداف من يصوّر الاعتداءات وتكسير الهواتف ومسح التسجيلات، والتحرّش الجنسي خلال التعنيف، وتوقيف البعض بأسلوب الخطف والاستدراج من دون أيّ إشارة قضائية وخارج حالات الجرم المشهود".

وبعد التوقيف تستمرّ الانتهاكات بحق الموقوفين عبر منعهم من حقوقهم القانونية، مثل "عدم إعلامهم بسبب التوقيف ومكان الاحتجاز، وعدم السماح لهم بالتواصل مع عائلاتهم أو مع محامين، وعدم الإفصاح عن أماكن احتجازهم للأهل وللمحامين المتطوعين للدفاع عن الموقوفين وتضليلهم، والمعاملة المهينة والمذلة للموقوفين، وتوجيه الشتائم والتشكيك بدوافع المشاركة في الانتفاضة، وتفتيش هواتفهم من دون إذن قضائي، وعدم السماح للموقوفين بقراءة إفاداتهم الأولية قبل التوقيع عليها".



في هذا السياق، تؤكد المحامية لمى الأمين، من لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين في لبنان، أنّ كلّ الجهات الأمنية لم تحترم حقوق الموقوفين، وهذا يشكّل خرقاً للقوانين اللبنانية، لا سيما قانون أصول المحاكمات الجزائية، وللاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقّع عليها لبنان. وتلفت الأمين إلى أنّ "المشكلة الأساسية التي تواجهها اللجنة هي في تحديد مكان الاحتجاز، إذ يتعرّض المحامون لتضليل واضح"، خصوصاً إذا كانت الجهة الأمنية هي استخبارات الجيش، وهو ما دفع محامي اللجنة الأسبوع الماضي إلى تقديم إخبار لمدعي عام التمييز غسان عويدات، بالإخفاء القسري للمتظاهرين سامر مازح وعلي بصل، وحجز حريتهما من دون أيّ مسوغ قانوني.

"تاج راسك"
أمام المشهد البوليسي هذا في لبنان، تحرّكت أكثر من مجموعة لتوعية المتظاهرين بشأن حقوقهم، خصوصاً عبر انتشار مقاطع فيديو ورسوم بيانية وغرافيكية تشير إلى ضرورة الصراخ أو قول الاسم بوضوح عند الاعتقال، ليسمعه المتظاهرون الآخرون ويبلغوا لجنة المحامين به، كي تجرى متابعة ملفهم، وتحديد مكان احتجازهم، بالإضافة إلى الطلب من المتظاهرين محاولة السؤال عن الجهة التي سيأخذ إليها الموقوف، بالإضافة إلى كتابة رقم اللجنة على اليد. لكن، أمام الممارسات الأخيرة والإفادات بممارسة عنف واضح ضدّ الموقوفين، من خلال التوقيف، وبعد التوقيف، يبقى السؤال عمّا يمكن فعله في هذه الحالة. وهنا تقول الأمين إنّ "على الموقوف أن يطالب بحقوقه دوماً بعد التوقيف، ويجب أن يدركها جيداً ويطالب بها، حتى إن لم تلتزم جهة التوقيف، والتوقيع بتحفّظ على محضر التحقيق في حال التعرض له أو الضغط عليه أو في حال لم يقرأ إفادته بشكل كامل، كما يحق له رفض توقيع أي تعهد، أو أيضاً التوقيع بتحفظ في حال الضغط، أو في حال تخييره بين التوقيع والإفراج عنه، وبعد الخروج يجب أن يطلب المتابعة مع المحامين".




تؤكد هذه الانتهاكات، أو بالأحرى تكشف الوجه الحقيقي في لبنان، على عكس ما يسوق عادة، خصوصاً أنّ الإفادات التي تلت بعض التوقيفات كانت صادمة لكثير من اللبنانيين، وستحرج لبنان أمام المجتمع الدولي، خصوصاً الإفادات التي تحدثت عن تعذيب، وتحديداً للموقوفين الذي أفرج عنهم لاحقاً، سامر مازح وعلي بصل وخلدون جابر، وإصابة بعضهم بأضرار جسدية بالغة، بالإضافة إلى التحقيقات معهم التي كانت مهينة، وصولاً إلى إذلالهم، ومنها إجبار مازح، وفق ما قال في أحد تصريحاته التلفزيونية، على ترداد جملة: "ميشال عون تاج راسك".

ويتمحور كثير من التحقيقات وفق إفادات وتصريحات بعض الموقوفين الذين أفرج عنهم حول مواقفهم السياسية ومشاركاتهم في التظاهرات، وأسئلة متعلّقة بالتحركات ومن يقف خلفها، ومن يمولها، في انتهاك واضح وصريح لحرية التعبير، وحق التظاهر، بالإضافة إلى أنّه يعتبر انتهاكاً للدستور اللبناني، ويضرب آخر صورة إيجابية للبنان بعدما فقد كلّ مميزاته السياحية والاقتصادية والثقافية على مدار العقود الماضية نتيجة السياسات المتبعة في لبنان.

وفي هذا السياق، تؤكد الأمين أنّ بعض المواد المستخدمة في الادعاء على الموقوفين تعتبر انتهاكاً لحق التظاهر وحرية التعبير، مثل قوانين القدح والذم، كاشفة أنّه في بعض الحالات "طلب من بعض المواطنين الحضور للتحقيق على خلفية منشور نصّي أو فيديو". وهو نهج متبع منذ سنوات في لبنان، إذ تم استدعاء عشرات الناشطين على خلفية مواقف أو منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي. وتضيف أنّ "على النيابات العامة اليوم التحرك بملفات الفساد، وأن تكون هذه أولوياتها، وليست الادعاءات الشخصية لأصحاب السلطة والنفوذ ضد مواطنين بسبب مواقفهم".

موقوفون
كانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد دعت في تقرير صدر قبل أيام تحت عنوان "الحكي عليه جمرك: تجريم التعبير السلمي في لبنان" مجلس النواب (البرلمان) إلى إلغاء القوانين التي تجرّم التعبير، وتحديداً قوانين القدح والذم والتحقير التي تعتمد عليها السلطات اللبنانية في السنوات الأخيرة لإسكات الصحافيين، والناشطين، وآخرين ممن ينتقدون سياسات الحكومة والفساد. واللافت في التقرير صدوره في نحو 100 صفحة، وتحدثه عن استخدام هذه القوانين كسلاح فتاك في يَد من يريد إسكات الانتقاد والنقاش، وعن خنق حرية التعبير وترهيب، وعن تجارب مرعبة يعيشها من قابلتهم المنظمة. وكشف أنّ مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية فتح منذ التظاهرات التي خرجت على خلفية أزمة النفايات في عام 2015 حتى مايو/ أيار الماضي 3599 تحقيقاً في ادعاءات تشهير.



وعلى الرغم من أنّ التقرير يتحدث عن المرحلة التي سبقت فعلياً الانتفاضة اللبنانية الحالية، فإنّه يؤكد أنّ ما يحصل اليوم ليس استثناءً بل ممارسات باتت ممنهجة، وتعتبر السلطات أنّها وسيلة لإسكات المنتقدين، خصوصاً أنّ التحقيقات والتوقيفات اليوم كانت تهدف بجزء منها إلى ترهيب المحتجين، خصوصاً من قبل استخبارات الجيش، لكنّ النتيجة فعلياً كانت عكسية، بما أنّ المفرج عنهم أولاً نجحوا في كسر حاجز الخوف، وعلى الرغم مما تعرضوا له فقد تحدثوا عما حصل معهم، وقدموا إفاداتهم، كما أنّ التحركات على الأرض، سواء على المستوى القانوني للمحامين أو على مستوى التظاهرات التي توجهت نحو مراكز الاحتجاز وقصر العدل، كسرت حاجز الخوف، عبر انتقاد الأجهزة التي تمارس قمعاً وتعذيباً نفسياً وجسدياً ضد الموقوفين.

وعلى صعيد الأرقام أفادت لجنة المحامين بأنّها خلال الشهر الأول للحراك الشعبي الثوري وثقت أكثر من 300 حالة توقيف، من ضمنها لـ12 قاصراً على الأقل، في حين جرى إطلاق سراح معظم الموقوفين، باستثناء 11 شاباً موقوفاً في قضية "استراحة صور". كذلك وثقت نحو 76 حالة تعنيف من قبل أجهزة عسكرية وأمنية ومدنيين مناصرين لأحزاب السلطة، من ضمنهم قاصر واحد على الأقل، حتى تاريخ مرور شهر على الانتفاضة.

دور الجيش
وعلى الرغم من هذه الأرقام ومن الإفادات، فإنّ قائد الجيش اللبناني، العماد جوزيف عون، تحدث مؤخراً عن أنّ "التوقيفات التي حصلت أخيراً شملت عناصر عملوا على إحداث شغب وواجهوا الجيش وحاولوا منعه من تنفيذ مهمته وتعرضوا له، كما شملت أشخاصاً من غير اللبنانيين وآخرين تبيّن أنّ بحوزتهم مخدرات". تعتبر المحامية ديالا شحادة أنّ "كلام قائد الجيش تضمن مغالطات ومزاعم، خصوصاً حديثه عن مشاركة أجانب ومتعاطي مخدرات، ولا إثبات على هذا الكلام حتى في محاضر التحقيق، لكن نتريّث لنطلع على المحاضر، على الرغم من أنّه عادة ما يتم إجبار الموقوفين على توقيعها من دون قراءة، بالإضافة إلى التعرض لهم بالضرب وانتهاك حقوقهم". تضيف: "لا إثباتات على كلام قائد الجيش، بل على العكس ثمة قرائن تثبت أنّها غير صحيحة، خصوصاً أنّ كلّ من اعتقلهم الجيش أخلي سبيلهم خلال يومين أو ثلاثة في الأكثر، وبالتالي، لا يمكن أن يكونوا ارتكبوا جرائم وجرى إطلاق سراحهم".

وفي هذا السياق، تقول شحادة إنّ "الأرقام التي أصدرتها لجنة الدفاع عن المتظاهرين توثق حالات تعنيف ضد المتظاهرين، بالإضافة إلى مقاطع فيديو وشهادات وتقارير طبية شرعية توثق التعنيف، وإفادات بعض من أخلي سبيلهم وتحدثوا عن حالات تعذيب وإهانة ومحاولة الحطّ من الكرامة من قبل استخبارات الجيش وبعض عناصر الجيش واستخبارات بزي مدني". وتشير شحادة إلى أنّ هذه التصرفات تظهر "انتهاكاً لمدونة قواعد السلوك التي أطلقها الجيش في فبراير/ شباط الماضي، بإقرار منه أنّ هناك انتهاكات لحقوق الإنسان، وهذه المدونة دعت الى جملة أمور وألزمت المؤسسة العسكرية نفسها بها، من ضمنها احترام حقوق الإنسان ومحاسبة من ينتهكها".

وتذكّر شحادة أيضاً بصور العقيد جان غنطوس، من استخبارات الجيش، التي انتشرت وهو يشهر مسدسه الحربي باتجاه المتظاهرين مع رفع إصبعه الأوسط تجاههم أمام قصر بعبدا، وتقول: "إلى اليوم، لم نعلم بعد إن كانت قد جرت محاسبته عن التصرفات المخالفة للقانون ولقواعد السلوك، سواء لجهة إشهار سلاحه وتهديده المتظاهرين السلميين وتلقيم المسدس، أو عبر حركات شائنة بيده. كذلك، لم يعلن عن إجراءات المحاسبة بشفافية، والأمر نفسه في خصوص مرافق الضابط الذي أطلق النار على علاء أبو فخر (أحد المتظاهرين في خلدة، إلى الجنوب من بيروت، الذي قُتل في ذلك الحادث)".




ليل الثلاثاء - الأربعاء، توجه نقيب المحامين ملحم خلف، الذي فاز الأحد الماضي في انتخابات النقابة كمرشح مستقل في مواجهة مرشح الأحزاب، شخصياً إلى ثكنة الحلو بعد الاعتقالات الأخيرة في الليلة نفسها، وتابع الملف وأكد ضرورة الالتزام بالقوانين التي تكفل الحقوق للموقوفين. لكنّ الرسالة الأخرى من موقف خلف كمنت في حديثه عن ضرورة عدم إغلاق أيّ مكان في وجه المحامين، وهي رسالة ضمنية بعد نهج الإخفاء القسري والتضليل الذي مورس مع بعض المحامين لدى سؤالهم عن أماكن الاحتجاز. كذلك، يوفّر حضور خلف شخصياً مظلة حماية للمتظاهرين عموماً، لا سيما مع الجهات الأمنية التي لا تلتزم عادة بحقوق الإنسان، وتعرّض الموقوفين إلى تعذيب جسدي ونفسي.