ما زال الانتحار في أماكن العمل يؤرّق الفرنسيين، وتأتي إحدى الوقائع الأخيرة لتسلّط الضوء على الانتحار بين العاملين في قطاع التعليم، من مدرّسين ومديرين يخضعون لضغوط كثيرة تختلف طبيعتها، غير أنّها تؤدّي جميعها إلى إنهاك مهني.
في الثالث والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، عُثر على الفرنسية كريستين رونون (58 عاماً) جثّة هامدة في مدرسة "ميهول" التي تديرها في بلدية بانتان التابعة لإقليم سين سان دوني في منطقة إيل دو فرانس، شمالي البلاد. وهي كانت قد أقدمت على الانتحار قبل يومَين، تاركة رسالة طويلة تشكو فيها من الإنهاك المهني، بحسب ما نقلت وسائل إعلام مختلفة.
عند الحديث عن وضْع حدّ للحياة، مثلما فعلت رونون لأسباب تتعلّق بالعمل وضغوطه، لا بدّ من الإشارة إلى ما يُعَدّ ظاهرة بين عناصر قوى الأمن الذين بلغت حالات الانتحار في أوساطهم 53 حالة منذ بداية العام الجاري وحتى تاريخ كتابة هذه السطور. ورجال الشرطة يتعرّضون لإنهاك شديد، خصوصاً مع كثرة العمل، في ظلّ الاضطرابات الاجتماعية وخطورة مواجهة عناصر فوضوية ومشاغبة، فيما تأتي رواتبهم هزيلة، نظراً إلى عبء المهمات التي يؤدّونها وظروف عملهم. يُذكر أنّ مستويات الانتحار غير المسبوقة تلك، دفعت إلى تحرّك النقابات المعنيّة والسلطات العامة في البلاد، وأنشئت خلية إنذار ووقاية من الانتحار.
بالعودة إلى قطاع التعليم، فإنّ إنهاء رونون حياتها في مقرّ عملها في الواحد والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، يأتي بعد إقدام عدد من العاملين في المجال على الانتحار في مختلف المناطق الفرنسية. وبحسب البيانات الأخيرة المتوافرة، فإنّ نسبة الانتحار في قطاع التعليم تصل إلى 39 حالة من بين كلّ مائة ألف شخص، علماً أنّ عدد سكان فرنسا نحو 65 مليون نسمة، الأمر الذي يجعل تلك النسبة تفوق ما يُسجَّل في قطاعات أخرى.
في رسالتها التي دوّنتها رونون قبل إزهاق روحها، حرصت على شرح دواعي قرارها اليائس، وخصوصاً العمل المنهك الذي كانت تضطلع به. وأشارت كذلك إلى إحساس بالعزلة في العمل، أي إنّ العاملين في قطاع التعليم يُترَكون وحدهم في مواجهة كلّ مشاكل القطاع المستعصية والدائمة، ولا سيّما التواصل مع أولياء أمور التلاميذ العدوانيّين أحياناً، بالإضافة إلى تراكم مهمات مختلفة في الجانبَين التعليمي والإداري معاً. ويؤدّي ذلك إلى "تعب نفسي كبير يصيب أعماق الروح"، مثلما كُتب في أحد شعارات تظاهرات العاملين في قطاع التعليم قبل أيام. والنهاية المأساوية التي وضعتها رونون لحياتها تأتي لتكشف للرأي العام بعضاً من واقع ما يجري في مؤسسات تربوية نظّم عاملون فيها تحرّكات أعلنوا من خلالها أنّ ما عاشته مديرة مدرسة "ميهول" قبل انتحارها، هو نفسه ما يعيشونه هم، فيما مواقف السلطات المعنية ما زالت دون المستوى المطلوب.
ورسالة رونون نفسها تناولت بصورة خاصة مهمات المديرين، من تنظيم كلّ شيء في المدرسة، من قبيل التدريب على الإجراءات الواجب اتخاذها عند وقوع حريق أو حدوث اعتداء أو اقتحام أو إغلاق المدرسة، بالإضافة إلى كتابة تقارير ذات صلة. وهذا أمر يدفع المدير إلى العمل ما بين 50 و54 ساعة أسبوعياً، فيما يعمل المدرّس 44 ساعة أسبوعياً. وتابعت رسالة رونون بأنّ مدير المدرسة مضطر إلى الانكباب على مجموعة من الأمور التي أسمتها "الأمور الصغيرة"، موضحة أنّها "تشغل 200 في المائة من نهارنا، على الرغم من صغرها". وقد فصّلتها على أنّها "مواعيد مع البلدية، وملفات التسجيل الواجب ملؤها باليد وكذلك إلكترونياً، وانتخابات لجان أهل التلاميذ، ومغادرة القسم لبرهة من أجل فتح بوابة المدرسة الحديد، والردّ على التحقيقات التي تطالب بها وزارة التربية الوطنية"، إلى جانب أخرى.
وقد أتى انتحار رونون إلى جانب تحرّكات العاملين في قطاع التعليم ومطالبهم لتكشف للرأي العام ظروف هؤلاء الصعبة، ولا سيّما موضوع "العنف" الذي لا يبدو أنّ الدولة تتعامل معه بالجدية والصرامة المطلوبتَين، بحسب النقابات التعليمية. والعنف في المؤسسات التربوية كشفت عنه وسائل إعلامية من خلال أمثلة تناولتها، من قبيل اعتداء التلاميذ على مدرّسيهم وتصوير زملاء لهم المشاهد ونشرها وبثّها على وسائل التواصل الاجتماعي. يُذكر أنّ هذا العنف يُسجّل خصوصاً في الضواحي والأحياء الشعبية، الأمر الذي يستوجب تمسّك المدرّس بسلطة ما، من دون أن يؤدّي دور رجل الشرطة أو المساعدة الاجتماعية. فمهمّته الأولى تبقى العملية التعليمية. وإذا كان الأمر سهلاً بعض الشيء بالنسبة إلى مدرّس متمرّن وذي خبرة، إلى جانب دعم الإدارة من حوله، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى المدرّسين الشباب، من الرجال والنساء على حدّ سواء. بعض هؤلاء لا يخرج سالماً من التجربة، إذ ينهار من جرّاء التوتر والضغوط النفسية، علماً أنّ ثمّة من ترك المهنة، وأنّ بعضاً من هؤلاء ألّف كتباً مقدّماً شهادات لافتة عن الوضع.
ويتّخذ العنف أشكالاً مختلفة قد تشارك فيها عائلات بأكملها تستهدف مؤسسة تعليمية ما، فيتحوّل الأمر في بعض الأحيان إلى عنف جسدي مع الطاقم العامل فيه. كذلك قد يكون شتائم أو تحرّشاً، فيتوقّع المدرّس المستهدَف مثلاً دعماً من قبل رؤسائهم، لكنّه لا يأتي، وذلك بسبب ضغوطات لجان أهل التلاميذ. وهذا العنف المصحوب بتخلّي المؤسسة عن الفرد المستهدف، هو ما يوصله إلى الشعور بالعزلة واضطراره إلى تقديم البراهين اللازمة لإثبات الوضع. ويمكن الحديث في هذا الإطار عن المدرّس جان فيلو (57 عاماً) الذي أقدم على الانتحار في 15 مارس/ آذار 2019، في إقليم فال دواز في منطقة إيل دو فرانس (شمال)، وذلك بعدما اتهمته والدة أحد التلاميذ بإلحاق الأذى الجسدي بابنها البالغ من العمر ستّة أعوام. هو وضع حدّاً لحياته في إحدى الغابات، بعدما شدّد على براءته في مواجهة تلك الاتهامات والإصرار على مثوله أمام لجنة تفتيش مدرسية.
في سياق متصل، يشعر المدرّسون بخيبة أمل، هم الذين اتّجهوا إلى التعليم عن حبّ وشغف بسبب رسالته المفترضة لبناء المجتمع والإنسان. فهؤلاء راحوا يكتشفون أنّ نظرة المجتمع، خصوصاً التلاميذ، إليهم، قد تغيّرت. وقد صرّح أمين النقابة الوطنية للمدارس والثانويات في مدينة روان (شمال غرب)، نورمان غورييه، بأنّه "انتقلنا من حقبة كان فيها الكلام المقدس يخرج من أفواه المدرّسين - وفي الأمر مبالغة من دون شك - إلى حقبة صار كلّ ما يتفوّه به المدرّسون غير صحيح".