يبدو أنّ واقع التونسيين في خلال عام 2018 المنصرم، أتى في سياقَين متوازيَين. في حين أنّ إنجازات عدّة تحقّقت في البلاد، فقد رُفعَت مطالب كثيرة في تحرّكات احتجاجية، ما زالت صالحة حتى يومنا
مرّ عام 2018 على تونس حاملاً مفارقات في كل المجالات، إنجازات حقيقية تقابلها إخفاقات واضحة. وبينما تتّجه البلاد إلى "التأسيس" ووضع قوانين تُعَدّ رائدة على مستوى الحقوق وتؤشر إلى مرحلة جديدة ترتفع بها إلى مصاف تلك البلدان الديمقراطية التي تُعِدّ القانون والمؤسسات مرجعاً أساسياً لها، تتعالى أصوات المحرومين المطالبين بأبسط الحقوق وبالحياة الكريمة.
وشهدت أواخر العام المنصرم تصاعداً كبيراً في الاحتجاجات الاجتماعية، خصوصاً في سيدي بوزيد والقصرَين (وسط غرب) حيث ولدت الثورة، وكأنّ في ذلك تهيّؤاً لشهر يناير/ كانون الثاني الجاري الذي يُتوقّع أن يكون شهر الاحتجاجات التاريخي في تونس. وكان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، قد أشار في تصريح صحافي إلى أنّه سوف يكون "شهراً مخيفاً إذا لم يثب السياسيون ومختلف مؤسسات الدولة وكافة الأطراف من دون استثناء إلى رشدهم".
في السياق، يقول رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مسعود الرمضاني، لـ"العربي الجديد"، إنّ "التحركات الاحتجاجية في عام 2018، خصوصاً في خلال الأشهر الأخيرة، أتت منظمة تقودها النقابات واتحاد الشغل، ولعلّ أبرزها الإضرابات الخاصة بالوظيفة العمومية والتعليم الثانوي، إلى جانب تحركات اجتماعية على خلفيّة الأمطار الأخيرة في محافظة نابل على سبيل المثال، لتلتحق بها محافظتا القيروان وسيدي بوزيد، مع مطالبات بتحسين البنى التحتية. تُضاف إلى ذلك الاحتجاجات التقليدية المطالبة بمياه صالحة للشرب وأخرى تحرّك خلالها حملة الشهادات والعاطلون من العمل". ويؤكد الرمضاني أنّ "أبرز ما يمكن استنتاجه من الاحتجاجات المنظمة أنّها حافظت تقريباً على المطالب التقليدية نفسها، والتي تتعلّق بمعظمها باتفاقيات موقّعة (تتعلّق بالتعليم والوظيفة العمومية)، لكنّها لم توضع حيّز التنفيذ. بالتالي، ثمّة مطالب بتطبيقها على أرض الواقع. أمّا الاحتجاجات غير المنظمة فهي تطرأ بحسب الأوضاع والمستجدات على الساحة، وبناءً على مطالب اجتماعية مختلفة بحسب المناطق".
ويقول الرمضاني إنّ "وتيرة الاحتجاجات حافظت على النسق نفسه تقريباً، بالمقارنة مع عام 2017. فقضية المياه ما زالت تُطرح، في حين أنّ الانتدابات تكون في أحيان كثيرة محرّكاً للاحتجاجات، خصوصاً أنّ الانتداب في الوظيفة العمومية توقّف منذ مدّة، نتيجة ضغوط صندوق النقد الدولي على تونس. والأوضاع الاجتماعية تتعقّد أكثر بسبب غلاء الأسعار والظروف الاقتصادية الصعبة". يضيف أنّ "لا مؤشّرات إلى تحسّن الوضعَين الاقتصادي والاجتماعي في تونس، بل هما يزدادان صعوبة من عام إلى آخر، نظراً إلى ارتفاع نسبة المديونية وغلاء الأسعار"، مشيراً إلى أنّ "ملاحقة المحتجّين ما زالت مستمرة وثمّة ملاحقات قديمة لاحظنا أنّها عادت إلى جانب تلك الجديدة التي تترافق مع معظم التحركات".
عنف وهجرة
من جهة أخرى، يتحدّث الرمضاني عن "نسب العنف التي تسجّل ارتفاعاً في البلاد، وهي ظاهرة لافتة ومقلقة، ولا بدّ من دراستها"، موضحاً أنّ "المنتدى يدرس الظواهر الاجتماعية وكذلك العنف. فالاعتداءات الجنسية (على سبيل المثال) طاولت أطفالاً ونساء متقدّمات في السنّ. وهذه مسائل صارت محيّرة ومطلوب اليوم تناولها من قبل باحثين متخصصين".
وفي ما يتعلق بقضية الهجرة، يلفت الرمضاني إلى أنّ "عام 2018 شهد تراجعاً في الهجرة غير الشرعية بالمقارنة مع عامَي 2016 و2017، لكنّ الهجرة السرية سجّلت أخيراً تزايداً في نسبة الأطفال المنخرطين فيها". يُذكر أنّ ثمّة بيانات تشير إلى أنّ عدد التونسيين الذين تمكنوا من الوصول إلى السواحل الإيطالية في عام 2018 (تحديداً حتى 10 ديسمبر/ كانون الأول منه) هو 6006 تونسيين، بينما أُحبِطت محاولات 7046 آخرين، نحو 1200 منهم من القصّر، إلى جانب أكثر من مائة امرأة.
وتتعدّد الإخفاقات الاجتماعية في تونس، لجهة الكمّ والأوجه، فثمّة مشكلات لا تتوقف في التعليم، وقد مرّ الفصل الأول (ثلاثة أشهر) من هذه السنة الدراسية من دون امتحانات، بينما تهدد النقابة العامة للتعليم الثانوي بأن يكون الثلاثي الثاني بالطريقة نفسها. وتأتي كذلك المشكلات المرتبطة بزيادة أجور موظفي الدولة، إلى جانب أخرى لا تحصى في الصناديق الاجتماعية، بالإضافة إلى نقص في الأدوية وغير ذلك.
عبور سريع
في المقابل، تبدو تونس كأنّها دولة تحاول العبور بسرعة قصوى إلى ضفة أخرى تحفظ حقوق مواطنيها وترفع من شأن الفرد وتتعامل معه على أساس قيمته. وقد صادق البرلمان التونسي في عام 2018 على جملة من القوانين المهمة، من بينها قانون المسؤولية المجتمعية للمؤسسات وقانون أساسي يتعلق بهيئة حقوق الإنسان وآخر حول الموافقة على انضمام الجمهورية التونسية إلى الاتفاقية المتعلقة بالجوانب المدنية للاختطاف الدولي للأطفال، المبرمة في إطار مؤتمر لاهاي للقانون الخاص بتاريخ 25 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1980. كذلك نذكر قانوناً أساسياً يتعلق بالقضاء على جميع أنواع التمييز العنصري، وآخر حول المغادرة الاختيارية للأعوان العموميين، وآخر حول الموافقة على انضمام الجمهورية التونسية إلى البروتوكول الاختياري الثالث الملحق باتفاقية حقوق الطفل المتعلق بإجراء تقديم البلاغات، وآخر حول الموافقة على انضمام الجمهورية التونسية إلى اتفاقية مجلس أوروبا بشأن حماية الأطفال من الاستغلال والاعتداء الجنسي (لانزاروتي)، وقانون يتعلق بالموافقة على انضمام الجمهورية التونسية لبروتوكول الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن حقوق المرأة في أفريقيا، وقانون حول إصدار مجلة الجماعات المحلية تمّ على أساسه إجراء الانتخابات البلدية الأولى بعد الثورة وإنشاء مؤسسة الحوار الاجتماعي والمصادقة على قانون يجرّم كلّ أشكال الاعتداء على المرأة.
"ثورة قانونية"
تقول الكاتبة العامة لجمعية النساء الديمقراطيات نايلة الزغلامي لـ"العربي الجديد"، في هذا السياق، إنّ "المصادقة على قانون مناهضة كلّ أشكال العنف المسلط على المرأة مثّلت ثورة قانونية حقيقية، وأرست منظومة حماية متقدمة عن منظومات دول جوار أو حتى عن بعض الدول الأوروبية. القانون يشتمل على معظم أشكال العنف المسلط على المرأة، وإلى جانب العنف الجنسي والعنف المادي يأتي الاقتصادي والثقافي". لكنّ الزغلامي ترى أنّ "الأمر ما زال منقوصاً والمنظومة تحتاج إلى التطبيق، بالتالي لا بدّ من تفعيل مقتضيات القانون المذكور، خصوصاً بعث المرصد الوطني للعنف ضدّ المرأة الذي يرصد الانتهاكات الواقعة عليها وأوجه العنف الذي تتعرّض له، الأمر الذي يوفّر معطيات إحصائية من جهة ومن أخرى يمكّن من فهم أكبر لما يحدث ومعالجته".
وتلفت الزغلامي إلى أنّ "إشراك النساء في مواقع القرار ما زال منقوصاً كذلك، على الرغم من توفّر الكفاءة، وهو ما يعني أنّ الأمر يتطلب نصاً قانونياً أولاً وتفعيله ثانياً. لكنّ استحداث قانون من دون ملاءمته ببقيّة النصوص التشريعية يطرح أكثر من سؤال حول الاستعداد الحقيقي لتفعيله". وتوضح أنّ "جلّ القوانين التي تُعَدّ تمييزية ضدّ المرأة والتي هي سارية المفعول لم تُنقَّح بعد وتتم ملاءمتها مع الدستور أوّلاً ثمّ مع قانون مناهضة العنف ضدّ المرأة ثانياً".
من جهتها، وفي ما يتعلق بقانون التمييز العنصري، تقول النائبة جميلة الكسيكسي لـ"العربي الجديد" إنّ "التمييز ضدّ الأقليات والعنف ضدّ المرأة هما أمران مجتمعيان وهيكليان لا يمكن معالجتهما من دون ثلاثة أمور أساسية، وهي القانون والسياسات العمومية وحراك مجتمعي مدني". تضيف أنّ "القانونَين اللذَين صدرا في مجال حماية المرأة والأقليات يُعدّان ثورة تشريعية، إذ إنّهما يتضمّنان كل المقتضيات الواجب وضعها لمناهضة التمييز ضدّ المرأة وكذلك التمييز ضدّ الأقليات". وتستدرك الكسيكسي أنّه "بعد مرور عام ثانٍ على قانون العنف ضدّ المرأة وأشهر عدّة على قانون مناهضة التمييز ضدّ الأقليات، ما زال تفعيلهما هو التحدي المطروح".
وتصف الكسيكسي "الخطوات المتخذة في هذا المجال بأنّها متوسطة النسق، وهذا أمر مستغرب، لا سيّما أنّ مشروعَي القانونَين نوقشا في أطر مجتمعية واستغرقا حيّزاً زمنياً من النقاش داخل البرلمان كذلك، ما يُعَدّ كافياً لاستيعابهما من قبل أجهزة الدولة". وتشرح أنّ "الجهد الذي تبذله الوزارات لتطبيقهما ما زال متوسطاً، وهو ما بيّنته الاجتماعات التي عقدتها اللجنة المعنية بالمرأة في البرلمان مع المتدخّلين في المجال". وتتحدّث الكسيكسي عن نيّتها "التقدّم بمبادرة تشريعية متعلقة بتخصيص حصة (كوتا) من الوظائف السياسية العليا والوزارات للنساء، طالما لم تحترم الحكومة الأمر بعد".
تضيف الكسيكسي أنّ "ما ينقص اليوم كذلك، هو تعريف النساء بالقانون الذي يطاولهنّ. فالنساء ضحايا العنف لا يعرفنَ ما هي الحماية التي يقدّمها لهنّ، تماماً مثلما لا يعرف ضحايا التمييز العنصري حقوقهم كذلك وفق التشريع الجديد. بالتالي يتطلب الأمر عملاً على تبسيط المواد وتفسيرها. وينسحب ذلك على القضاة والأمنيين الموكلين بالتطبيق. ومن شأن هذا التدريب أن يسمح بتغيير العقليات المتساهلة مع جرائم العنف الواقعة على المرأة وجرائم التمييز العنصري". وتشدد على أنّ "المعركة أعمق من تغيير قوانين، إذ إنهّا معركة ثقافة ووعي المستهدَف الأوّل فيها هو الأجيال المقبلة، ومن هنا يأتي دور المناهج التربوية لتعليم احترام الكرامة الإنسانية".