تتفاوت أرقام حالات الانتحار المؤكدة في العراق بين سنة وأخرى، لكنّ الصدمة تصيب المواطنين مع نهاية كلّ عام، في السنوات الأخيرة، إذ بات من المعهود زيادة أعداد المنتحرين من جهة، وتنوع طرق الانتحار من جهة أخرى
على مدى أعوام طويلة، كانت حالات الانتحار في العراق قليلة جداً. لكن، في أعقاب الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، وما تسبب فيه من ويلات ليس أقلها الحرب الأهلية وانتشار الفوضى الأمنية والإرهاب والفشل التنموي، بات من المعتاد أن تستقبل مستشفيات البلاد جثثاً لمنتحرين، بالإضافة إلى إسعاف ناجين من الانتحار، وبات العدد بالمئات سنوياً، كما أنّه يزداد بشكل لافت، بحسب مفوضية حقوق الإنسان العراقية.
لعلّ الرقم الأعلى الذي سجلته المفوضية كان عام 2013، إذ اقترب من 500 حالة انتحار، وكانت محافظة ذي قار الجنوبية ذات النصيب الأكبر من الحالات، لدوافع كثيرة، أبرزها الفقر. انخفض العدد إلى 251 حالة انتحار، منها 128 حالة في العاصمة بغداد وحدها، عام 2016، وكانت حينذاك نسبة انتحار النساء أكثر من الرجال، وقد أنهى كثيرون حياتهم بالقفز من فوق جسر أو بتناول السم أو قطع الأوردة أو الشنق أو الحرق أو بالرصاص.
تتفوق مدينة الناصرية، جنوبي العراق، بشكل كبير، في أعداد حالات الانتحار، حتى وصلت إلى مستويات خطيرة أثارت قلق ومخاوف بعض الجهات والمنظمات الإنسانية. يتزامن ذلك مع غياب الحلول الحكومية وإهمال منظمات المجتمع المدني للمدينة. في حين تستمر القوى الأمنية في محافظة ذي قار في إنقاذ بعض المخططين للانتحار، مثلما فعلت الشهر الماضي، مع إنقاذ امرأة (27 عاماً) من الانتحار في نهر الغراف (أحد فروع دجلة) في قضاء الرفاعي، ووصل عدد من جرى إنقاذهم إلى 41 حالة في ذي قار وحدها خلال عام 2018.
تؤكد مفوضية حقوق الإنسان في العراق، زيادة أعداد حالات الانتحار، منذ عام 2013. تعزو ذلك إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. يقول عضو المفوضية، فاضل الغراوي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الانتحار انتشر في العراق بشكل لافت خلال السنوات الماضية، كما تعددت طرقه، لكنّ أبرزها تناول الأدوية التالفة، أو القفز من أماكن شاهقة الارتفاع، فضلاً عن تناول مواد سامة، وإطلاق الرصاص".
عن دوافع الانتحار، يشير الغراوي إلى أنّ "ما توصلت إليه المفوضية خلال تحقيقاتها مع ناجين من عمليات انتحار، ومن خلال الدراسات الأمنية الحقلية، يبيّن أنّ الفقر هو العامل الأبرز الذي يدفع الشباب إلى الانتحار، ويندرج في إطاره عدم توافر فرص للعمل، وغياب القدرة على تأمين متطلبات المعيشة اليومية، خصوصاً في أطراف المدن. ومن خلال التحقيقات أيضاً، فإنّ حالات الانتحار تتركز غالباً في الفئة العمرية العشرينية". يلفت إلى أنّ "من الأسباب المهمة، انعدام الأمن، بسبب العمليات الإرهابية التي جرت في مناطق متفرقة من البلاد، وهو ما خلّف حالات إحباط واكتئاب لدى المنتحرين".
يتابع الغراوي: "حتى الآن، لا إحصائية رسمية لعام 2018، لأنّنا ننتظر مجلس القضاء العراقي ووزارتي الداخلية والصحة، وهي الجهات المسؤولة عن التكفل بإحصاء الحالات، لكن ما توصلنا إليه بشكل مبدئي وغير دقيق، أنّ محافظة الديوانية شهدت العام الماضي 14 حالة، والمثنى 26 حالة، أما كربلاء فشهدت 8 حالات". يوضح أنّ "سبباً أضيف إلى أسباب الانتحار هو الاستخدام السيئ لوسائل الاتصال الاجتماعي، ومتابعة المقاطع المصورة للجماعات الإرهابية، وعمليات النحر والعنف، ما أدى إلى انهيارات عصبية انتهت بالانتحار".
لا تختلف مناطق جنوب ووسط البلاد عن شمالها، ويفيد مصدر من شرطة مدينة السليمانية عاصمة المحافظة التي تحمل اسمها، في إقليم كردستان العراق، بارتفاع نسبة الجريمة وحالات الانتحار هناك. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "عام 2017 شهد تسجيل 67 حالة انتحار، وفي عام 2018 سجلت 62 حالة، وجرى إنقاذ شخصين من الموت انتحاراً". يتابع: "غالبية الأسباب مرتبطة بفشل علاقات عاطفية، وأخرى متعلقة بالوضع الاقتصادي". يشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "أكثر من نصف الحالات التي وقعت، خلال العام الماضي، شملت شباناً وكباراً في السن، إذ إنّ أكثر من 10 حالات كانت أعمار الضحايا فيها تتراوح ما بين 40 و50 عاما، متأثرين بحالات اكتئاب وغيرها من الاضطرابات النفسية".
في السياق، تقول الناشطة الحقوقية رواء الموسوي، إنّ "من بين أهم الأسباب التي تزيد أعداد حالات الانتحار التفكك الأسري، والشعور بالفشل، وعدم القدرة على التعامل مع الآخرين، فضلاً عن عدم اهتمام الجهات الحكومية بتوفير مراكز لمعالجة من لديهم ميول انتحارية". تشير إلى أنّ "القانون العراقي لا يعاقب من يحاول الانتحار، باعتباره حرّاً في خياراته، لكنّه ينص على معاقبة من يساعد المنتحر، فإذا كان المساعد ما دون 18 عاماً، يسجن سبع سنوات، وإذا كان في الثامنة عشرة فما فوق، يعامل معاملة مرتكب جريمة القتل العمد. والمثير أنّ عدداً كبيراً من الجرائم المعروفة بجرائم الشرف يعلن عنها كحالات انتحار لنساء، وهذا الأمر يتطلب تدخلاً حكومياً وأمنياً، ويستوجب وقفة جادة تضع النقاط على الحروف وتشخّص الأسباب وتضع المعالجات التي يفترض أن تأخذها الدولة بعين الاعتبار".
يضيف النائب في البرلمان العراقي غايب العميري، إلى تلك الأسباب "الهروب من المشاكل العشائرية" كدافع للانتحار. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "من المهم أن يركز البرلمان العراقي، خلال دورته الحالية، على طرح هذا الملف أمام النواب لمناقشته والتوصل إلى حلول مجدية وواقعية وسريعة".