فقراء عراقيون يتاجرون بدمائهم... وهدفهم العيش

22 يناير 2019
في أحد بنوك الدم (حيدر الحمداني/ فرانس برس)
+ الخط -

يؤدّي عدم الاستقرار الأمني في العراق إلى انخفاض في فرص العمل، ما يرفع من نسب البطالة والفقر، وبالتالي يتّجه العاطلون من العمل إلى البحث عن مصادر للدخل تختلف طبيعتها، من بينها الاتجار بدمائهم

مليارات الدولارات الأميركية تُهدَر على مشاريع وهمية في العراق، بحسب ما تؤكد تقارير رسمية واعترافات مسؤولين في الدولة، الأمر الذي يدفع البلاد لتكون في مصاف الدول الأولى بالفساد في العالم وفقاً لبيانات منظمة الشفافية الدولية. وتُهدر تلك المبالغ الكبيرة، في حين يطاول الفقر نسبة عالية من العراقيين، ما يدفع بعضهم إلى المتاجرة بكلّ ما يتوفّر لهم... ولا يستثنون دمائهم.

ثمّة سهولة في توفير متبرّعين بالدم عند الضرورة، لكن في بعض الحالات يضطر مواطنون إلى شراء الدم، بسبب حالات حرجة مستعجلة لا تستحمل الانتظار. وهو ما يحصل عند وقوع الحوادث، ومنها الأمنية. والعراق، منذ الغزو الأميركي في عام 2003، يخبر باستمرار حالات طوارئ ناتجة عن تفجيرات إرهابية واقتتال داخلي وحروب مع تنظيمات مسلحة من قبيل تنظيمَي "القاعدة" و"داعش". وحالات الطوارئ تلك تتسبّب في وقوع إصابات كثيرة وكبيرة تتطلب إسعافات سريعة، ومن بينها توفير الدم المناسب.




لا ينفي ستار والي أنّه يتربّح من دمه، ويقول لـ"العربي الجديد" إنّه "في كلّ مرّة أجني ما لا يقلّ عن 100 ألف دينار عراقي (نحو 85 دولاراً أميركياً)، وأساهم في الوقت نفسه في إنقاذ أحدهم من الموت. من المفترض أن يستحقّ ما أبيعه ثمناً أكبر". يضيف والي: "أعيل أسرة مؤلّفة من والدة مقعدة وزوجة وثلاثة أطفال، وأسكن بيتاً بالإيجار، وأعمل عتّالاً في مخزن، وأحاول جاهداً توفير احتياجات أسرتي"، مؤكداً أنّ "الحصول على المال بأيّ طريقة ممكنة هو ما يهمّني، لكنّني بالتأكيد لا أرغب مخالفة القوانين". ويتابع والي: "منذ أكثر من عشرة أعوام وأنا امتهن بيع دمي. تشجّعت عندما كانت بغداد تشهد في كلّ يوم تفجيرات وعمليات قتل طائفي. كثيرون كانوا يبحثون عن دم. وبما أنّني كنت حينها عاطلاً من العمل، شجّعني أحد الأصدقاء على بيع دمي مرّة كلّ شهر أو أكثر". والي يعلم جيداً أنّه "لا يجب أن تقلّ المدّة الزمنية بين تبرّع وآخر عن شهرَين، لكن لديّ غزارة في الدم ولا أعاني أيّ أعراض جانبية".

ويخبر والي أنّ "ثمّة وقائع عدّة تصادفنا. وفي مرّة، كان أحدهم يبحث عن متبرّع أمام بنك الدم، وكنّا حينها في شهر أغسطس/ آب والساعة تشير إلى الثانية من بعد الظهر. قلت له: أنا أبيع لك دمي. فقبّلني على خدّي واحتضنني كأنّه عثر على كنز. ثمّ أشار إلى سيارة فارهة مركونة في الجوار، وأكّد لي أنّه سوف يوصلني إلى منزلي بعدما يشتري ما تحتاجه أسرتي من لحوم وخضروات وفاكهة، فضلاً عن أنّه سوف يدفع لي ما أريد وأكثر من المال". يكمل والي سرده: "وعندما انتهيت، طلب منّي الرجل وهو شاب يصغرني بأعوام عدّة، أن أنتظره بالقرب من سيارته، ففعلت. تأخّر كثيراً، وفي النهاية وصل رجل لم أره من قبل وفتح باب السيارة وصعد إليها وانطلق بها. فعلمت أنّني وقعت ضحيّة أحد الماكرين. وكلّما أتذكّر ذلك الموقف أضحك كثيراً. لكنّني متأكّد من أنّ الرجل كان مضطراً إلى الحصول على دم، ولأنّه لم يكن يملك المال لشرائه اخترع تلك الكذبة".

من جهته، يتحدّث صادق الركابي عن "أجمل المواقف التي واجهتها في حياتي"، ويخبر "العربي الجديد" أنّه "في شتاء عام 2012، كنت أقف بالقرب من بنك الدم في بغداد، أحاول أن أجد من أبيعه دمي. توقّفت ثلاث سيارات فيها رجال ونساء، بدا واضحاً أنّهم من أسرة واحدة. كان الهلع والقلق يبدوان واضحَين عليهم. اقتربت من إحدى السيارات، فعلمت أنّ ثمّة طفلاً صغيراً من الأسرة تعرّض إلى حادثة دهس وهو في حالة حرجة وفي حاجة إلى دم. وكانت تلك فرصتي، إذ إنّ فئة دمي هي نفسها فئة دمه". يضيف الركابي: "كنت مستلقياً في أثناء سحب الدم، عندما اقترب خال الطفل وقبّلني واضعاً في جيبي ورقة من فئة مائة دولار أميركي، قبل أن يقترب عمّ الطفل بدوره ويقبّلني كذلك ويضع في جيبي 150 ألف دينار (نحو 130 دولاراً). وعندما انتهيت ونهضت، جاءت خالة الطفل وأعطتني 200 ألف دينار (نحو 170 دولاراً)". ويتابع أنّ "الأمر لم ينتهِ عند هذا الحدّ، فقد ناداني أحد أعمام الصغير بينما كنت أهمّ بالخروج من بنك الدم، وأهداني خاتماً بعته بنحو 500 ألف دينار (نحو 420 دولاراً)".

والركابي من الأشخاص ذوي الإعاقة، إذ إنّ ساقه بُترت على أثر إصابته في تفجير إرهابي وقع في بغداد في عام 2007. واليوم يعمل بائعاً جوالاً، ويعرض السجائر على رصيف في منطقة الباب الشرقي، وسط العاصمة. ويشير الركابي إلى أنّه "في ذلك اليوم، اشترى ما تحتاجه أسرته من مواد غذائية وأصناف مختلفة من اللحوم، فقد نجحت ببيع دمي بأضعاف السعر المعتاد، أي ما بين 50 ألف دينار و100 ألف (نحو 40 - 80 دولاراً)".




تجدر الإشارة إلى أنّه حين يمرّ المرء بحالة حرجة ومستعجلة، لا يفكّر بالمال بقدر تفكيره بإنقاذ حياة من هو مهدَّد من أفراد أسرته. ولأنّ الوقت قد لا يكون متاحاً للاتصال بالأقارب والأصدقاء بهدف توفير الدم المنقذ للحياة، فيكون اللجوء إلى شراء المطلوب ولو بمبالغ كبيرة. يقول نجدت خليل، وهو رياضي، إنّه اعتاد التبّرع بدمه في مرّات كثيرة لأصدقائه وأقاربه ولأشخاص آخرين لا يعرفهم لمجرّد علمه بحاجة ماسة لدم، "لكنّني اضطررت إلى شراء الدم حين احتاجت شقيقتي إليه في خلال خضوعها إلى جراحة لاستخراج شظيّة اخترقت بطنها من جرّاء تفجير في عام 2009". يخبر خليل "العربي الجديد" أنّ "وضع شقيقتي كان حرجاً، والوقت لم يكن لمصلحتنا، على الرغم من أنّ أصدقاءً وأقارب لي توجّهوا إلى بنك الدم للتبرّع. وعندما وجدت شخصاً يعرض دمه للبيع، لم أتردّد ودفعت له ما طلبه من مال". يضيف خليل: "لا آسف حين أدفع في مقابل دم، لكنّني أحزن عندما أرى شخصاً يتاجر بدمه أو بأعضائه. الحاجة أجبرته على ذلك، وهذا تصرّف مؤلم".