حروب حفتر... نسيج ليبيا الاجتماعي يتمزّق

08 اغسطس 2018
النزعات القبلية تعود (عبد الله دوما/ فرانس برس)
+ الخط -


كثيرة هي خفايا نتائج حروب الجنرال المهزوم خليفة حفتر التي ما زالت تتكشف وتظهر بين الحين والآخر، لكن لعلّ من أبرزها على الإطلاق، وأكثرها أثراً، تمزق النسيج الاجتماعي بين السكان، كما هي الحال في بنغازي بعد حرب دامت ثلاث سنوات.

على الرغم من التكتم الشديد حول آثار الحرب في مدينة بنغازي، شرقي ليبيا، في كلّ مستوياتها حتى الآن، بما فيها الآثار المادية التي طاولت ممتلكات ومنازل أهالي المدينة التي سويت بالأرض، فإنّ الآثار المجتمعية تظهر كثيراً من الشقاق بين الأهالي، خصوصاً ممن ينتمون إلى قبائل استعادت عداواتها التاريخية. كلّ ذلك غذته قوات برلمان طبرق بقيادة خليفة حفتر واستثمرته لتحقيق انتصارات زائفة.

وبالرغم أيضاً من غياب الإحصاء الدقيق لعدد النازحين عن المدينة جراء الحرب، فإنّ تصريحات من مسؤولي جهات غير رسمية كرابطة مهجري بنغازي، تشير إلى أنّ الأسر النازحة تجاوزت 10 آلاف أسرة، لكن بتتبع حقيقة هذا العدد يتبين أنّ أهالي المدينة الذين تركوا منازلهم جراء الحرب ينقسمون إلى شريحتين: أولاً، النازحون، وقد تمكن عدد منهم من العودة إلى منازلهم التي لم تطاولها الأضرار بشكل كبير، وينتمي أغلبهم إلى قبائل شرق البلاد. ثانياً، المهجرون بالقوة بسبب انتماء مقاتلي مجلس شورى بنغازي، الذي كان يقاتل ضد قوات حفتر، إلى أسر هذه الشريحة، فجرى تهجيرهم بالقوة وحرق وهدم منازلهم، وينتمي معظمهم إلى قبائل من غرب ليبيا هاجرت في فترات زمنية سابقة إلى بنغازي.

تعتبر بنغازي ثاني أكبر مدن ليبيا، وأكبر مدن الشرق، وفيها الثقل السكاني الثاني بعد طرابلس، إذ سكن فيها قبل انطلاق ما يسمى بـ "عملية الكرامة" منتصف عام 2014، قرابة مليون نسمة. كذلك، تعتبر البوتقة التي ينصهر فيها أغلب الليبيين، فأصول سكانها تنتمي إلى أغلب المدن الليبية.




يشير الخبير الأمني محيي الدين زكري، إلى أنّ ما يسمى بـ "عملية الكرامة" لعبت على وتر النسيج الاجتماعي، فأحيت نزاعات قديمة كانت لا تتجاوز الجدالات بين الناس، لكنها شجعتها لتستثمرها في القتال. يقول لـ "العربي الجديد" أنّ "حفتر منذ البداية شجع على خرق النسيج الاجتماعي من خلال تسليحه قبائل من شرق البلاد تسيطر على شرق المدينة وتحتفظ بمخزون من الروايات التاريخية التي تؤكد أنّ بنغازي امتداد لأراضيها، وأنّ من يسكنها حالياً دخلاء عليها". يشير إلى أنّ أبرز تلك القبائل البراغثة والعواقير. يتابع: "بالتالي، وأمام حمل أبناء هذه القبائل السلاح ورفع شعارات من قبيل: ليرجع كلّ شخص إلى أصوله، انحاز أبناء أغلب الأسر ذات الأصول من غرب البلاد إلى القتال داخل صفوف مجلس الشورى ودعمه للحفاظ على وجوده وممتلكاتهم". يضيف: "ولأنّ القوة كانت في البداية لمقاتلي شورى المدينة فقد وقعت أضرار جسيمة في صفوف القبائل الموالية لحفتر ما دفعها إلى تكوين كتيبة قوية عرفت بأولياء الدم عمدت إلى هدم وحرق منازل السكان من أصول غرب البلاد وتوعدتهم بالقتل والاعتقال إذا عادوا إلى مساكنهم". ويؤكد أنّ العائدين إلى مساكنهم حالياً هم النازحون من الشريحة الأولى، أما الثانية فهم في شتات يعيشون في طرابلس ومصراته ومدن أخرى، وباتوا يشكلون قضية رأي عام.

يتفق محمد العبيدي، وهو ناشط مدني من بنغازي، مع زكري، لكنّه يعتبر أنّ لعبة القبلية لم تنجح مع حفتر في عمليته الأخيرة في درنة: "لطالما مكّن حفتر قبائل من شرق البلاد من محاصرة درنة التي يتشكل سكانها من أصول تعود إلى غرب البلاد وسط تشجيعه لهم باقتحامها أكثر من مرة، لكنّه عاود حساباته أكثر من مرة بعدما شهد على نتائج خططه في بنغازي التي بدت مستعصية على سيطرته بشكل كامل وبرزت فيها قبائل كان يدعمها أعلنت عداءها له لاحقاً. يتابع: "حفتر عرف أنّ خطته تلك فشلت فهذه القبائل وغيرها أدركت أنّه كان يستخدمها وقوداً لحربه وبالتالي فهي لم تقبل باقتحام درنة وحدها. ومن جانبه لن يقبل حفتر بسيطرتها وحدها على درنة، ولذلك كانت نتائج الحرب في درنة أقل وطأة وخسائر. يتابع: "لكن من دون شك، فإنّ خرق النسيج الاجتماعي بات أكيداً في شرق البلاد بسبب حروب حفتر".

بنغازي المدمرة (عبد الله دوما/ فرانس برس) 


هو ما يؤكد عليه أيضاً سالم العريفي، أستاذ علم الاجتماع السابق في جامعة بنغازي، بالإشارة إلى أنّ انحسار المعارك في شرق البلاد في مدينتي بنغازي ودرنة يشير بشكل كبير إلى استثمار حفتر الخلافات الاجتماعية في حروبه. يقول: "لست معنياً بشكل كبير بتحليل الجانب السياسي والعسكري في حروب حفتر لكنّي أؤكد أنّ مدن شرق ليبيا التي لا يعيش فيها خليط من سكان شرق وغرب ليبيا لم تشهد معارك". يضيف: "من هنا يجب القول إنّ حروب حفتر لعبت على الخلافات الاجتماعية وجيّرتها لصالحها لتكون خلفيات الصراع المسلح بين طيفين، الأول من أصول شرقية والآخر من أصول غربية نسبياً إذ يعيش منذ زمن بعيد في مدينتي بنغازي ودرنة". يتابع: "محلياً، نعرّف الفرعين بالبدو وهم السكان من أصول شرق البلاد، والحضر وهم السكان من أصول غربها. ومن الطبيعي أن تكون لسيطرة حفتر نتائج كارثية على النسيج الاجتماعي"، مؤكداً أنّ تلك الحروب عمقت الكراهية بشكل كبير، وأحيت النعرات القديمة.

يشير العريفي إلى أنّ "حرب إبراهيم الجضران على الهلال النفطي كان وراءها هدف إعادة المهجرين من أبناء قبيلة المغاربة الذين طردهم حفتر من أراضيهم إلى تلك المنطقة". يتابع أنّ "حفتر عمّق الانقسام الاجتماعي في الجنوب من خلال دعمه قبائل التبو زمناً وتقويتها بالسلاح ضد خصومها القبليين ثم انقلابه عليها ودعمه بشكل غير مباشر لقبائل أولاد سليمان خصمهم الآخر في سبها".




يؤكد العريفي أنّ نتائج حروب حفتر لن تنتهي بالسيطرة العسكرية: "سرايا الدفاع عن بنغازي التي تكونت في السابق وخاضت حروباً ضد حفتر جاءت رد فعل على تهجير أهالي مقاتلي السرايا من بنغازي. لا أعتقد أنّها انتهت، بل ستظهر تحت مسميات أخرى وستخوض صراعات جديدة". يشير إلى أنّ "أحد أخطر نتائج عمليات حفتر العسكرية بروز الطائفية والجهوية في مستوى سياسي تحت مسمى الفدرالية. المطالبة بالفدرالية تزيد مطالب التقسيم الذي هدد به الفدراليون أكثر من مرة". يخلص العريفي إلى أنّ "خرق النسيج الاجتماعي ستستمر نتائجه إلى سنين مقبلة ولن تعالجه مصالحة اجتماعية ما دام السلاح بيد الفصائل المجتمعية التي لن تتوقف عن الانتقام في ظل استمرار مشروع حفتر العسكري".