نازحون من الموصل... رفض العودة رغم التحرير

10 مايو 2018
في المدينة القديمة وسط الدمار (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -
ما زال عراقيون كثيرون تهجّروا من الموصل عند سيطرة "داعش" عليها، يفضّلون اليوم عدم العودة إلى مدينتهم، على الرغم من انسحاب آخر عناصر التنظيم منها قبل أشهر وعلى الرغم من الوعود بالأمان

مناطقهم تحرّرت من تنظيم "داعش" غير أنّهم يفضّلون البقاء في مخيّمات اللاجئين والمناطق التي لجأوا إليها، إذ يرونها أكثر أماناً لهم. هؤلاء بمعظمهم من سكان الموصل (شمالي العراق) النازحين. ولعلّ الأمراض المختلفة التي خلّفتها المعارك في تلك المناطق والعبوات الناسفة والقنابل التي لم ترفع بعد من الأحياء السكنية، بالإضافة إلى المنازل المهدّمة، كلها أسباب تجبر هؤلاء النازحين على عدم العودة.

والموصل التي تحرر جانبها الأيسر في يناير/ كانون الثاني من عام 2017 وجانبها الأيمن في يوليو/ تموز من العام نفسه، تُعَدّ أكثر مناطق العراق تضرراً من المعارك، إذ فرض "داعش" سيطرته عليها بالكامل في يونيو/ حزيران من عام 2014.

فيض عبد الجبار زار مدينته بعد تحريرها، فوجد أنّ بيته صالح للسكن ويحتاج فقط إلى ترميمات بسيطة. لكنّه، على الرغم من ذلك، يرفض العودة والسكن فيه، مفضّلاً البقاء في محلّ نزوحه في محافظة أربيل (شمال). يقول عبد الجبار لـ"العربي الجديد" إنّه "عند زيارتي إلى الموصل قبل أكثر من ستة أشهر، لم أستطع الوصول إلى الحيّ الذي كنت أسكن فيه بسبب الدمار الذي حلّ بالمدينة وأنقاض المباني التي أغلقت الطرقات. وقبل شهرَين، عدت مرّة أخرى. فرأيت عائلات وقد عادت، في حين أنّ أحياء كثيرة كانت لا تزال مغلقة بالأنقاض. وذلك لا يمثّل مشكلة بالنسبة إليّ، بل المشكلة هي في الأمراض التي تهدد سلامة الناس".

ويوضح عبد الجبار: "حتى اليوم ثمّة جثث تحت الأنقاض، وثمّة حيوانات نافقة كذلك تحت الأبنية المهدمة". ويتابع أنّه "فضلاً عن ذلك، ثمّة آلاف الأطنان من الصواريخ والقنابل التي انفجرت داخل تلك المناطق السكنية، وآثارها لا يمكن محوها بسهولة، فهي تلوّث الأرض والجو".



ويؤكد عبد الجبار أنّه حاول معرفة مستوى تلوّث المدينة، لذلك حمل معه جهازاً لكشف التلوّث. وهكذا، "تأكدت بنفسي من التلوّث الكبير نتيجة القنابل والصواريخ التي دكّت المدينة. وأنا أخاف على أطفالي من أمراض فتاكة إن عدت بهم إلى بيتنا. لذلك، سوف أبقى في منطقة النزوح حتى تخلو المدينة من التلوّث".

دمار كبير

الدمار الذي خلّفته الحرب في الموصل هائل، وهذا ما يتّضح خصوصاً في الجانب الأيمن من المدينة التي يشطرها نهر دجلة إلى نصفَين، أيسر وأيمن. أمّا الجانب الأيسر من الموصل فهو أقل دماراً من الأيمن، بسبب شوارعه وأحيائه الواسعة التي مكّنت القوات العراقية من تحريره من دون تعريض المباني والمنازل إلى دمار كبير، بخلاف الجانب الأيمن الذي يُعَدّ المنطقة القديمة من الموصل، والذي تأتي شوارعه ضيّقة. يُذكر أنّ ضيق تلك الشوارع هو السبب الذي جعل "داعش" يتّخذها منطقة محصّنة، وهو ما أخّر تحريرها الذي تطلب تعريضها لتدمير شبه كامل. وبحسب ما جاء في تصريحات صحافية سابقة لمجلس محافظة الموصل، فإنّ نسبة الدمار في الجانب الأيسر وصلت إلى 55 في المائة، بينما وصلت في الجانب الأيمن إلى 80 في المائة.

حدّوا مخاوفهم وعادوا إلى جامعة الموصل (يونس كلش/ الأناضول) 


البيوت المدمرة سبب آخر يمنع ولا شكّ النازحين من العودة. سعيد النعيمي من هؤلاء، هو الذي يقف يومياً أمام المقهى حيث يعمل ويراقب الأطفال وهم في طريقهم إلى مدارسهم والألم يعتصر قلبه. والنعيمي كان قد لجأ عند نزوحه من الموصل إلى بغداد، وراح يعمل في مقهى يملكه أحد أقاربه. أمّا مرور الأطفال وهم يحملون حقائبهم المدرسية فيستحضر صورة طفله الصغير الذي رفعه من تحت الأنقاض جثّة هامدة بعد تهدّم بيته. يُذكر أنّه دفنه مع طفلَين صغيرَين من أبناء جيرانه في حديقة صغيرة تعود إلى أحد بيوت الزقاق الذي كان يسكنه، في الجانب الأيمن من الموصل. ويقول النعيمي لـ"العربي الجديد" إنّه "لو بقي ابني حياً لكان اليوم في الصف الثاني الابتدائي"، مضيفاً أنّه "منذ تحريرنا في صيف العام الماضي لم أزر مدينتي. اخترنا أنا وزوجتي المجيء إلى بغداد بعدما قضينا شهرَين في مخيم للنازحين. لم يعد لنا بيت في الموصل، لقد تهدم بالكامل وليست لديّ مقدرة مالية لإعادة بنائه".

وتفيد تقارير صادرة عن مجلس محافظة الموصل بأنّ إعادة إعمار المحافظة في حاجة إلى مبالغ كبيرة تراوح ما بين ستّة إلى ثمانية مليارات دولار أميركي، وهو ما يؤخّر الإعمار. فالبلاد تعاني من ديون ثقيلة بسبب قضايا مختلفة، من بينها الإنفاق على الحرب على "داعش"، فضلاً عن الفساد المالي الذي تعاني منه الدولة والذي كشفت عنه تقارير عالمية، الأمر الذي جعل العراق يتصدّر قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم.

قنابل وعبوات

يأتي الخوف من انفجار قنابل وعبوات مفخخة ليدعو صفاء الدين الربيعي إلى عدم العودة إلى الموصل، إذ هي في الوقت الحالي "مجازفة بحياة أسرتي". والربيعي الذي نزح من الموصل بعد أيام قليلة من سيطرة "داعش" عليها، يقول لـ"العربي الجديد" إنّه زار المدينة مرتَين بعد تحريرها ولم يتوقّع حجم الدمار الذي شاهده. ويؤكد أنّ "حجم الدمار هائل، حتى الجانب الأيسر الذي عادت الحياة إليه من جديد غير صالح للسكن، فالطرقات مدمّرة وآثار المعارك في كل مكان. والناس لا يملكون الإمكانات لإعادة إعمار منازلهم".



ويتابع الربيعي أنّ "الذين عادوا إلى الموصل كانوا مرغمين على ذلك، إذ إنّهم في الغالب فقراء وليس في استطاعتهم العيش في محافظة أخرى واستئجار بيوت. بالنسبة إليّ، لو لم أكن ميسور الحال لكنت عدت كذلك". يُذكر أنّ الربيعي يعمل في تجارة المستلزمات الكهربائية، وقد تمكّن من تأسيس عمل جديد في بغداد بعد نزوحه من الموصل. يضيف: "في إمكاني إعادة بناء بيتي من جديد، لكنّ ما رأيته أرعبني. لن أعود قبل أن يُعاد تأهيل الموصل بالكامل". ويشير الربيعي إلى أنّ "ثمّة تأكيداً من قبل مختصين أنّ قنابل وعبوات مفخخة ما زالت موجودة في المدينة، خصوصاً تحت الأنقاض. إنّه أمر مرعب، ولا يمكن أن أجازف بحياة أسرتي من أجل العودة. أستطيع العيش في أيّ مكان آخر ولا شيء يجبرني على العودة إلى مكان من المحتمل أن نقتل فيه في أيّ وقت".

مبادرات

في مقابل التشاؤم والمخاوف، تُنشر صور تظهر حيوية ونشاطاً من قبل ناشطين من الشباب يسكنون في الموصل، فتثير دهشة كثيرين. وهؤلاء الشباب يحاولون إعادة الحياة إلى مدينتهم، لذلك عمدوا إلى إقامة مهرجانات ونشاطات فنية وثقافية ورياضية واجتماعية، وبدأت المدينة تستقبل شخصيات عراقية معروفة لتؤكّد أنّها انتصرت على الإرهاب وعادت من جديد إلى الحياة المدنية بعدما شهدت أسوأ مرحلة عنف ودمار في تاريخها. ومن بين أشهر الشخصيات العراقية التي حضرت إلى الموصل لتشارك في دعم إعادة الحياة إليها، الموسيقار المعروف سامي نسيم، الذي شارك في إطلاق مشروع ثقافي في المدينة وأقام أمسية فنية، فالتقطت له صور وسُجّلت مقاطع فيديو وهو يعزف على آلة العود في عدد من الأماكن المدمرة. وعلى الرغم من الدفع المعنوي لهذه المبادرة التي لاقت إعجاباً وترحيباً واسعَين من قبل العراقيين، فإنّ نازحين كثيرين من المدينة لم يتحمّسوا للعودة إليها. ورانيا عبد الفتاح من هؤلاء المصرّين على عدم العودة، فهي بحسب ما تقول "ما زلت أعيش صدمة داعش".

وتؤكد عبد الفتاح التي قتل زوجها على يد "داعش" لـ"العربي الجديد"، إنّها لا تستطيع العودة إلى مدينتها، مشيرة إلى أنّ "عودتي ربما تتأخر كثيراً أو ربما لا أعود أبداً". يُذكر أنّ رانيا التي تبلغ من العمر 29 عاماً، كانت قد رزقت حديثاً بمولودها الأول عندما سيطر "داعش" على مدينتها وكان زوجها من بين الذين أسرهم التنظيم، إذ إنّه كان يعمل في سلك الأمن، قبل أن يعدمه في وقت لاحق. فهربت برفقة أهلها إلى خارج المدينة.

اختاروا العودة وإعادة العمار (أحمد الربيعي/ فرانس برس) 


وتخبر عبد الفتاح: "عشت لنحو ثلاثة أشهر تحت حكم داعش ورأيت العجب العجاب. لقد صدمت. فجأة انضم للإرهابيين رجال وشباب أعرفهم من جيراننا، وآخرون كانوا زملائي في الجامعة. أحدهم كان جارنا حضر إلى البيت برفقة إرهابيين مسلحين واقتادوا زوجي بالقوة". وتتابع: "كنا نعلم أنّهم سوف يقبضون على أخي كذلك لأنّه كان قد انخرط حديثاً في سلك الشرطة. حاولوا ذلك بالفعل، لكنّه اختبأ عند جيران لنا. فضُرب والدي وهُدّد ووُجّهت ألفاظ بذيئة إلى والدتي. وفي النهاية تدبّر والدي وسيلة للهرب كلفتنا خمسة آلاف دولار بعدما قتلوا زوجي".

اليوم، تسكن عبد الفتاح برفقة عائلتها عند أقارب في إحدى قرى محافظة ديالى (غرب) وهي تتابع باهتمام كلّ ما يتعلق بمدينتها الموصل. لكنّها تشير إلى أنّ "محاولات أبناء المدينة المخلصين لإعادة الحياة إليها وسعي الناشطين الحثيث الذين كان بعضهم زملائي في الجامعة لن ينسياني المأساة التي عشتها. أظنّ أنّني قد لا أعود إلى الموصل ولو تحوّلت إلى واحدة من أفضل مدن العالم".
المساهمون