"مخيّم فلسطين"... فقر مَن فقد الوطن

26 ابريل 2018
أهل اليرموك في إحدى اللقطات (رامي السيد/ فرانس برس)
+ الخط -

كان مشهد عربات الخضروات التي تجرّها نساء المخيّم مفاجئاً لي، إذ لم أعتد في العاصمة أو الريف حيث أسكن على مشهد مماثل. هنا سوق الخضروات الشهير وسط "مخيّم فلسطين"، وهو ما يُطلق على الشارع الموازي لمخيّم اليرموك حيث التجمّع الفقير من فلسطينيين وسوريين تجاوروا لأكثر من ستين عاماً، يجمعهم فقط الفقر.

الشارع الآخر من المخيّم وهو اليرموك، كان بمثابة سوق كبير انتقلت إليه محلات العاصمة الشهيرة بمعظمها وتحديداً في لوبيا، وبات يوازي أسواق دمشق الشهيرة كالصالحية والحميدية بنظافته وزحامه ومحلاته الجديدة. واختصر السوق الجديد على سكان جنوب دمشق عناء الذهاب إلى أسواق العاصمة وزحام مواصلاتها، وانتقل الزحام البشري في أيام العطل والأعياد إلى اليرموك لتبدّل شكل المخيم ودوره.

أما شارع فلسطين المسكين، فحافظ على كونه شارع الفقراء الباحثين عن أرخص أنواع الخضروات، خصوصاً في أيام تحضير المونة، في حين بقيت كذلك سينما "النجوم" عنواناً بارزاً لمواعيد الغرباء الذين يدخلونه للمرّة الأولى. من جوارها، يمكنك الولوج إلى ركام بشري آخر هو حيّ التضامن الذي يسكنه فقراء دمشق وبقيّة المحافظات بالإضافة إلى نازحي الجولان.

في حواري شارع فلسطين وساحته، سكن شباب اليسار السوري من كل المحافظات، وقد هربوا إلى ما يشبههم. هنا، من الممكن التعايش مع شعب يهوى الحديث عن الثورة والوطن. وهذا ما جعل أيدي التخريب تطاوله من دسّ للمخدرات والسماح لبيوت الدعارة أن تخترق سلامه، والغاية خلق جيل غائب عن الوعي ينسى فلسطينه وحاضره.

وسط هذه الفوضى دخلت المنظمات الفلسطينية بتناقضاتها، تلك المحسوبة على النظام واستخباراته مثل الجبهة الشعبية - القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل العاملة على اليمين، ومثل حركة حماس التي راحت تدخل بيوت الفقراء بحصص المساعدات وكراسي المقعدين، بالإضافة إلى التنظيمات الباقية العاملة على استثمار زحام المخيّم وتحويله إلى قطعة محمومة في انتظار الأسوأ.

على الرغم من فقره، لم يكن شارع فلسطين شارعاً محايداً، فهو عقدة الوصل بين اليرموك وشارع الثلاثين كتجمّعات فلسطينية سورية مهمّشة وبين أحياء جنوب العاصمة الفقيرة كذلك، أي يلدا وببيلا وبيت سحم، والتي انتفضت دفعة واحدة في عام 2011 لتصير كتلة ضخمة شكّلت عبئاً على النظام. وهكذا صار شارع فلسطين تجمّعاً لنازحي تلك الأحياء، وهذا ما عرّضه لزلزال الثورة والقصف، وانخرط شبابه في تظاهرات مع أقرانهم ممن عانوا التهميش والذعر من الأمن طوال عقود.




ثمّ جاء الأسوأ... ساحة الريجة ومبنى البلدية. علامات موت وسيارات مفخخة تخللت نشرات الأخبار التي بدأت تصوّر الوضع في المخيّم. من يصدّق أنّ شارع فلسطين، باتت تتنازع السيطرة عليه جبهة النصرة تارة وتنظيم داعش تارة أخرى. ومن ساحة البطيخة وبنايات القاعة، بدأت النيران تأكل المخيّم من خارجه، بينما تأكله الصراعات من داخله. وتدافع أهل المخيّم في كلّ الجهات، وبقي عدد قليل يُقدّر بأقل من عشرة آلاف مواطن.

لاجئون ومهجرون تقاسموا حصار السنوات الأخيرة، واليوم يدفعون ثمن البقاء قصفاً بمختلف أنواع الأسلحة. حانت ساعة الرحيل الجديدة إلى مخيّمات جديدة في الشمال السوري الذي استحال مخيّماً كبيراً في مهب المجهول.

من بعيد، خارج الوطن البديل، فلسطينيو شارع اليرموك وشارع فلسطين يذرفون دموع من فقد وطناً أبدياً، ويحلمون بالعودة إلى فلسطينهم التي ولدوا فيها في إحدى ضواحي دمشق.