على خطى المهاجرين التونسيّين، انطلق "العربي الجديد" من تونس ليبلغ السواحل الإيطالية. كثيرون يعدّون شواطئ البحر الأبيض المتوسط تلك، باباً مشرعاً على أوروبا وعلى مستقبل أفضل لطالما حلموا به. هذه الحلقة الأولى من سلسلة تحقيقات ينشرها "العربي الجديد"، تتناول أوضاع هؤلاء تحت عنوان "السجن الأبيض المتوسط".
يشي ملف الهجرة إلى أوروبا، خصوصاً إيطاليا، بسقطة إنسانية مدوّية، وبفشل في المنظومة الحقوقية والسياسية الدولية، والأوروبية تحديداً، في التعامل مع هذه القضية. ولا يبدو هذا الاستنتاج متسرّعاً أو ظالماً، بالنظر إلى ما يصلنا من أخبار يوميّة عن غرقى ومحتجزين ومرحّلين إلى بلدانهم ومنسيّين جوعى في شوارع أوروبا الباردة.
وفي محاولة لفهم الحقيقة، أو الواقع من كلّ جوانبه، كان لا بدّ من رحلة إلى حيث تجري الأحداث لتقصّي تفاصيلها من كلّ الجهات. فانطلق "العربي الجديد" من أبعد نقطة في جنوب إيطاليا وصولاً إلى شمالها، والهدف خوض التجربة نفسها التي يعرفها المهاجر إلى إيطاليا بحراً، فالتقت مهاجرين سريين وآخرين شرعيين، وكذلك ناشطين في المجتمع المدني العربي والإيطالي، إلى جانب مسؤولين رسميين ومعنيين من منظمات نقابية وإنسانية ورجال دين في الكنائس وباحثين وشهود على الحقيقة المغيّبة.
لامبيدوزا، وراغوزا، وسيراكوزا، وفيتوريا، وبوتسالو، وكانيكاتيني، وكاتانيا، وباليرمو وروما... محطات في رحلتنا تُضاف إليها كالتانيسيتا، مركز ترحيل المهاجرين، وغيرها من المدن الساحلية الإيطالية التي يلجأ إليها المهاجرون. في كلّ واحدة من تلك المدن، رحنا نجد أنفسنا من جديد عند أبواب "السجن الأبيض المتوسط". فإيطاليا تحوّلت إلى سجن كبير للمهاجرين السريين ولآخرين من المهاجرين الشرعيين الذين تحاصرهم القوانين الإيطالية الجديدة الصارمة، لذا يجد هؤلاء أنفسهم غير قادرين على مغادرة إيطاليا خوفاً من أن يُمنعوا من العودة إليها بعد سنوات طويلة من الإقامة فيها، وبالتالي ضياع كلّ حقوقهم.
يشي ملف الهجرة إلى أوروبا، خصوصاً إيطاليا، بسقطة إنسانية مدوّية، وبفشل في المنظومة الحقوقية والسياسية الدولية، والأوروبية تحديداً، في التعامل مع هذه القضية. ولا يبدو هذا الاستنتاج متسرّعاً أو ظالماً، بالنظر إلى ما يصلنا من أخبار يوميّة عن غرقى ومحتجزين ومرحّلين إلى بلدانهم ومنسيّين جوعى في شوارع أوروبا الباردة.
وفي محاولة لفهم الحقيقة، أو الواقع من كلّ جوانبه، كان لا بدّ من رحلة إلى حيث تجري الأحداث لتقصّي تفاصيلها من كلّ الجهات. فانطلق "العربي الجديد" من أبعد نقطة في جنوب إيطاليا وصولاً إلى شمالها، والهدف خوض التجربة نفسها التي يعرفها المهاجر إلى إيطاليا بحراً، فالتقت مهاجرين سريين وآخرين شرعيين، وكذلك ناشطين في المجتمع المدني العربي والإيطالي، إلى جانب مسؤولين رسميين ومعنيين من منظمات نقابية وإنسانية ورجال دين في الكنائس وباحثين وشهود على الحقيقة المغيّبة.
لامبيدوزا، وراغوزا، وسيراكوزا، وفيتوريا، وبوتسالو، وكانيكاتيني، وكاتانيا، وباليرمو وروما... محطات في رحلتنا تُضاف إليها كالتانيسيتا، مركز ترحيل المهاجرين، وغيرها من المدن الساحلية الإيطالية التي يلجأ إليها المهاجرون. في كلّ واحدة من تلك المدن، رحنا نجد أنفسنا من جديد عند أبواب "السجن الأبيض المتوسط". فإيطاليا تحوّلت إلى سجن كبير للمهاجرين السريين ولآخرين من المهاجرين الشرعيين الذين تحاصرهم القوانين الإيطالية الجديدة الصارمة، لذا يجد هؤلاء أنفسهم غير قادرين على مغادرة إيطاليا خوفاً من أن يُمنعوا من العودة إليها بعد سنوات طويلة من الإقامة فيها، وبالتالي ضياع كلّ حقوقهم.
تفتيش ضروري عند مدخل "السجن" (أليساندرا بينيديتي/ Getty) |
فيوري وسلام فتاتان من إريتريا تبلغان من العمر 15 عاماً، وصلتا بدورهما إلى السجن الكبير. ترويان أنّهما انطلقتا من إريتريا لتمرّا بإثيوبيا والسودان ثمّ ليبيا، في رحلة استمرّت شهراً طويلاً عبر الصحراء. تضيفان: "كلّفتنا الرحلة مع المهرّبين نحو سبعة آلاف دولار أميركي، في حين بقينا في ليبيا نحو عشرة أشهر، في ما يشبه سجناً تعرّضنا فيه إلى معاملة سيئة للغاية. بعد ذلك، انطلق المركب بنا في البحر، لتدوم الرحلة نحو سبع ساعات". بعد ذلك، تلقّفتهما قوات البحرية الإيطالية من عرض البحر ونقلتهما مع مجموعة كبيرة من المهاجرين إلى بوتسالو جنوبيّ إيطاليا، قبل توزيعهم على مراكز إيواء أو ما يسمّى بالتعاضديات.
ظنّت فيوري وسلام أنّ المرحلة الصعبة انتهت بوصولهما إلى إيطاليا، وأنّ رحلة السعادة والحرية سوف تبدأ. لكنّ الأمر كان غير ذلك. وهو ما يؤكده عبد الإله، شاب مغربي بلغ أخيراً الثامنة عشرة من عمره. هو موجود في مركز إيواء منذ نحو عام، ويقول: "أنا هنا آكل وأشرب وأنام، من دون أن أحقق أيّاً من أحلامي. ويومياً، أنا ملزم بالعودة إلى المركز الأشبه بسجن". وعبد الإله من الفئة المحظوظة جداً، إذ يؤمَّن له فراش وطعام ورعاية طبية. فالقوانين الإيطالية تفرض حماية القصّر الذين وصلوا إلى البلاد قبل بلوغهم الثامنة عشرة. لذلك، تنامت في الفترة الأخيرة هجرة الأطفال والقصّر من كلّ الجهات، وتحوّلت إلى ظاهرة لافتة للانتباه.
في ميناء لامبيدوزا (Getty) |
المشهد العام من لامبيدوزا إلى ميلانو يصوّر ما يمكن أن يكون عليه السجن الكبير الذي تحوّلت إليه إيطاليا. ففي لامبيدوزا، الجزيرة الصغيرة الأقرب إلى تونس منها إلى إيطاليا، يتوزّع عشرات من التونسيين في المقاهي والأزقّة، في ما يشبه سجناً مشمساً، لا أمل فيه بالهروب إلى اليابسة الإيطالية. هؤلاء يتهددهم يومياً خوف الترحيل إلى تونس، فيتجوّلون نهاراً ويعودون إلى مركز إيوائهم ليلاً، تحت رقابة مشددة.
يخبر صبري، شاب تونسي في الثلاثينيات من عمره، أنّه يضطر إلى النوم في العراء خارج المركز مرّتَين في الأسبوع، تفادياً للجنة التي تزور الجزيرة وتقرّر مصائر الحالمين هناك، وتتخذ قرارات ترحيلهم إلى بلادهم. وكان صبري قد توجّه إلى إيطاليا في رحلة كادت تودي بحياته، بعد تسرّب الماء إلى المركب الذي كان يستقلّه. هو جاء ليلتحق بحبيبته الإيطالية من أصول تونسية والحامل بطفله. ويؤكد: "سوف أكرّر التجربة مرّات ومرّات إذا لزم الأمر".
أنقذوها من الغرق... وما زالت ترتجف برداً (روبيرتو سالومونيه/ فرانس برس) |
ولا يختلف الأمر في المدن الإيطالية الأخرى التي زرناها، راغوزا وسيراكوزا وفيتوريا وغيرها، والتي تمكّن المهاجرون من بلوغها هي الواقعة في جزيرة صقلية (سيشيليا). فيها، يهرب المهاجرون من الشرطة الإيطالية خوفاً من الترحيل، ويعيشون بلا مأوى ولا طعام، باستثناء ما توفّره الكنائس لبعضهم. وفي روما، يفترش المهاجرون ليلاً قطعاً من الكرتون بالقرب من محطات القطارات، في انتظار الوهم أو مسارات الانحراف. أمّا الذين تنقلهم الشرطة إلى مركز كالتانيسيتا بعد إلقاء القبض عليهم، فمصيرهم العودة الحتميّة إلى بلدانهم. يُذكر أنّ محتجّين تونسيّين عمدوا إلى حرق جوانب من المركز أخيراً، في حين خاط آخرون أفواههم في لامبيدوزا، احتجاجاً على ترحيلهم.
من جهته، يؤكد الباحث في شؤون الهجرة واللجوء في جامعة لا سابيينسا، باولو هوارد، أنّ "إيطاليا تحوّلت بالفعل إلى سجن كبير". ويشرح في لقاء مع "العربي الجديد" أنّ "هذا الاستنتاج صحيح تماماً، لأنّ إيطاليا تستقبل الذين يلجؤون إليها منذ اللحظة الأولى في مراكز أشبه بالسجون. وتضطرهم البيروقراطية الإيطالية إلى قضاء فترات طويلة جداً بين مراكز الإيواء واللجوء، حيث يشعرون بأنّهم محاصرون بالقوانين والإجراءات التي تطول، بينما كانوا يظنّون أنّهم سوف يخرجون إلى الفضاء المفتوح ويستحصلون على وثائقهم بسرعة". ويشير هنا مطّلعون على خفايا الإدارة الإيطالية، إلى أنّ هذه البيروقراطية قد تكون مقصودة، لأنّ إطالة مدّة إقامة المهاجر في المراكز هي كذلك إطالة لفترة الإمدادات المالية من قبل الاتحاد الأوروبي.
وفي ما يتعلق بالتونسيين، تُبيّن الأرقام أنّه يصار أسبوعياً إلى ترحيل 80 مهاجراً، استناداً إلى الاتفاقية التونسية الإيطالية الموقعة بين الطرفَين، في الخامس من إبريل/نيسان 2011. وتفيد البيانات بأنّ 1882 تونسياً أعيدوا خلال العام الماضي في 63 رحلة، وهو رقم مرشّح للزيادة هذا العام. وتنتاب المهاجرين حالة غضب عارمة من جرّاء هذه الاتفاقية، ويقولون إنّ تونس هي البلد الوحيد الذي وقّع هذه الاتفاقية من دون بلدان أخرى في مقابل منافع مادية للحكومة، مشيرين إلى أنّ تونس تحصل على ثلاثة آلاف يورو عن كلّ مهاجر تونسي يُرحَّل.
لكنّ مصادر خاصة تؤكد لـ "العربي الجديد" أنّ "تونس انتفعت بموجب الاتفاقية من هبات بلغت قيمتها 157 مليون يورو، وبمساعدة تقنية في مجال مراقبة الحدود والتصدي للهجرة غير الشرعية بقيمة 12.5 مليون يورو". وتسعى تونس إلى إحياء اتفاقية سابقة كان معمولاً بها قبل عام 2010، تمنح إيطاليا بمقتضاها حصصاً سنوية للهجرة. لكنّ الجانب الإيطالي، بحسب ما يبدو، لم يعد متحمساً لذلك، بفعل الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد. إلى ذلك، علمت "العربي الجديد" أنّ الحكومة الإيطالية عرضت مشروع اتفاق جديداً على تونس في نهاية العام الماضي، وربّما تكون زيارة وزيرة الداخلية التونسية إلى إيطاليا أخيراً في هذا السياق.