في شارعَي وورن وفورد وسط ضاحية ديربورن بالقرب من مدينة ديترويت في ولاية ميشيغن الأميركية، تعجّ مقاهٍ ومطاعم بالحياة. تلك المقاهي والمطاعم اختارت لها أسماءً كتبت على واجهاتها بـاللغة العربية، في حين أنّ المارة في هذَين الشارعَين لا يمكنهم تفويت أصوات الساهرين التي تصدح باللهجات العربية المتنوّعة، من يمنية وعراقية ولبنانية وسورية وفلسطينية. فالسهرات هنا كما في مقاهي بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وغيرها من العواصم العربية، تمتدّ إلى أوقات متأخرة من الليل، مع الإشارة إلى أنّ الشيشة (النارجيلة) والمأكولات العربية والحلويات التقليدية تحتلّ صدارة المائدة.
ومع انتشار المساجد والمراكز الدينية والاجتماعية الإسلامية، واعتماد اللغة العربية في الدوائر الحكومية والمدارس كلغة رسمية ثانية بعد الإنكليزية، بالإضافة إلى إطلاق الأسماء العربية على المؤسسات والمحال التجارية، كلّ ذلك أكسب ديربورن لقب المدينة العربية الأولى في الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من وجود جاليات عربية وإسلامية أكبر في ولايات أخرى مثلما هي الحال في ولاية تكساس التي تضمّ أكبر جالية إسلامية في البلاد.
وكان عشرات آلاف المهاجرين واللاجئين العرب والمسلمين قد توافدوا إلى ولاية ميشيغن منذ بداية القرن الماضي، لتصبّ موجات هجرتهم في مدينة ديترويت، خصوصاً خلال العصر الذهبي لصناعة السيارات الأميركية. هؤلاء كانوا يسعون إلى العمل في مصانع شركات السيارات الأميركية التي اتّخذت من ديترويت مقراً رئيسياً لها. يُذكر أنّ الأميركيين من أصول عربية وإسلامية يمثلون أكثر من ثلاثين في المائة من القاطنين في منطقة ديربورن ومحيطها، وقد ساهم اندماجهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأميركية في تحسين شروط معيشتهم ومراعاة القوانين البلدية لمعتقداتهم الدينية والثقافية وإقرار قوانين خاصة ترعى وتنظّم يومياتهم.
وبمعزل عن مظاهر العنصرية التي تستهدف المسلمين والأقليات الإثنية والدينية الأخرى في الولايات المتحدة الأميركية، وخارج حسابات الحرب على الإرهاب وتداعيات انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية، فإنّ القوانين الأميركية تمنح المسلمين الأميركيين حقوق المواطنة الكاملة، فيما يتيح لهم الدستور الأميركي ممارسة طقوسهم الدينية بحريّة كاملة.
ولعلّ تحوّل كلمة "حلال" إلى مفردة مستخدمة على نطاق واسع في اللغة الإنكليزية اليومية، إشارة رمزية إلى حضور الإسلام والمسلمين في الثقافة الأميركية ونمط العيش في الولايات المتحدة الأميركية. وتحرص المطاعم ومحلات بيع الأغذية في ديربورن على أن تقدّم لزبائنها اللحوم الحلال المذبوحة بحسب الطريقة الإسلامية. ولأن الزبائن في المدينة هم بغالبيتهم من الجالية العربية والمسلمة، فقد عمدت المطاعم والشركات الأميركية الكبرى إلى تخصيص أجنحة خاصة بالمسلمين وتقديم وجبات خاصة لهم خالية من لحم الخنزير، والالتزام باللحوم المذبوحة بحسب الطريقة الإسلامية. وفي السنوات الأخيرة، على الرغم من حملات العداء التي يتعرّض لها المسلمون من قبل مجموعات عنصرية متطرّفة، تضاعف الطلب على اللحم الحلال في ميشيغن وغيرها من الولايات الأميركية التي تضمّ جاليات من أصول إسلامية. هكذا، وبسبب تزايد عدد المسلمين وتوسّع انتشارهم في البلاد، صارت اللحوم والأطعمة الحلال أكثر انتشاراً في الولايات المتحدة من أطعمة "كوشر" اليهودية. كذلك عمدت البلديات والمدن الأميركية بغالبيتها إلى وضع قوانين خاصة للإشراف الصحي على المسالخ الشرعية وتنظيم بيع وشراء اللحم الحلال.
في سياق متصل، تقدّم خلال شهر رمضان الماضي، المواطن الأميركي المسلم محمد بزّي بشكوى أمام محكمة ديربورن ضدّ سلسلة مطاعم "ليتل سيزار" بعدما اكتشف أنّ البيتزا بالبيبيروني الحلال التي طلبها، كانت تحوي في الحقيقة لحم خنزير على الرغم من كلمة "حلال" المطبوعة على علبة البيتزا. وطلب من شركة "ليتل سيزار" بحسب الدعوى، دفع تعويض قدره 100 مليون دولار أميركي للمواطن الأميركي المسلم الذي اكتشف أنّه تناول لحم الخنزير المحرّم وفق الشريعة الإسلامية. ويقول المحامي ماجد مغنية إنّه تقدّم بالشكوى قبيل شهر رمضان ليحذّر الصائمين ويجنّبهم التعرّض لحوادث مشابهة.
وفي عام 2011، تقدّم كذلك مسلمون من ديربورن بدعوى ضد مطعم "ماكدونالدز" بسبب بيعه لحم دجاج على أنّه "حلال"، لكنّه لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. وكشفت التحقيقات أنّ عاملين في المطعم كانوا قد باعوا عن طريق الخطأ وجبات غير حلال لزبائن مسلمين طلبوها غير ذلك. وغرّمت محكمة ديربورن "ماكدونالدز" مبلغ 700 ألف دولار لصالح المتضرّرين الذين تقدّموا بالدعوى.
وتعطي السلطات المحلية في ولاية ميشيغن تراخيص خاصة لبيع اللحم الحلال، فيما يشرف مفتّشون من البلديات على المسالخ التي تذبح على الطريقة الإسلامية ويمنحون شهادات لكلّ ذبيحة تخرج منها إلى السوق الاستهلاكي. وتجرّم القوانين الأميركية التجار الذين يحاولون التلاعب والغشّ وبيع لحوم على أساس أنّها حلال ويتبيّن أنّها ليست كذلك أو أن عملية الذبح لم تلتزم تماماً بالطريقة الشرعية الإسلامية وشروطها، أي أن يكون من يذبح مسلماً وأن يذكر اسم الله قبل الذبح وأن يوجّه الذبيحة نحو القبلة الشريفة في مكة المكرمة.
تجدر الإشارة إلى أنّ سوق اللحم الحلال في الولايات المتحدة الأميركية تحوّل إلى قطاع واسع يدرّ على العاملين فيه أرباحاً كبيرة، وهو الأمر الذي شجّع متموّلين أميركيين من غير المسلمين على الاستثمار في هذا القطاع. على سبيل المثال، يستورد تاجر أميركي كبير كميات كبيرة من اللحوم الحلال التي تستهلكها الجالية الإسلامية في ديربورن من مزارع في أستراليا، فيما يؤمّن تجّار مسلمون وعرب القسم الباقي من اللحوم الحلال التي يحتاجها السوق.