مع سعي السلطات إلى التقارب مع الاتحاد الأوروبي وقطع كلّ الصلات مع روسيا، تتجه أوكرانيا اعتباراً من العام المقبل إلى حظر التدريس بـاللغة الروسية في المدارس بدءاً من الصف الخامس، في خطوة أثارت تخوف نحو ثلث سكان البلاد من الناطقين بالروسية من حرمانهم من تعلم أبنائهم لغتهم الأم والتعرض إلى مزيد من التهميش.
ومع تبني قانون التعليم الجديد يتخوف روس أوكرانيا من تغيير أوضاعهم نحو الأسوأ وهيمنة اللغة الأوكرانية على مقاليد الحياة في البلاد، لكنّه لن يثنيهم عن الحفاظ على لغتهم الأم في الأجيال الناشئة، وفق ما يؤكده رئيس الجالية الروسية في أوكرانيا قسطنطين شوروف. يقول شوروف في اتصال مع "العربي الجديد" من كييف إنّ "الجالية الروسية تعتبر قانون التعليم الجديد استمراراً لفرض هيمنة اللغة الأوكرانية على الحياة التعليمية والاجتماعية والسياسية في أوكرانيا".
في هذه الأثناء يترقب روس أوكرانيا نتائج لجنة فينيسيا في مجلس أوروبا بشأن قانون التعليم الجديد والمقرر صدورها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، معتبرين أنّ "ردّ فعل الهيئات الأوروبية سيظهر مدى انحيازها إلى القيم الأوروبية المعلنة" بحسب شوروف.
ما يزيد من متاعب وأزمات أوكرانيا، في السنوات الماضية، أنّ مجتمعها منقسم بين غرب البلاد، الذي يتحدث سكانه اللغة الأوكرانية ويتطلعون إلى التكامل مع أوروبا، والشرق الموالي لروسيا. ولهذا السبب تحديداً، وصف المفكر السياسي الأميركي الراحل، صامويل هنتنغتون، في كتابه "صدام الحضارات" أوكرانيا أنّها "بلد منقسم ذو ثقافتين مختلفتين".
من جهته، يعتبر النائب السابق عن حزب "الأقاليم" الحاكم سابقاً في الرادا العليا (البرلمان الأوكراني) أوليغ تساريوف، أنّ السلطات الأوكرانية تسعى إلى القضاء على اللغة الروسية في البلاد، متمنية استنساخ تجربة دول البلطيق في جعل الروس مواطنين "بلا دولة". يقول تساريوف الذي يقيم في روسيا حالياً لـ"العربي الجديد": "بعد تحديد حصص للغة الروسية في المحطات التلفزيونية والإذاعية وتبني قانون التعليم الجديد، فإنّ انتشار الروسية سيتراجع بالطبع، لكنّها لن تموت مثلما لم تمت اللغة الأوكرانية في الحقبة السوفييتية، بل ظلت متداولة في المناطق الريفية". يضيف: "تهدف منظومة التعليم المدرسي والعالي إلى جعل الأوكرانية اللغة الرئيسية، وتسعى أعداد متزايدة من السكان من أصول روسية إلى تعليم أبنائهم اللغة الأوكرانية، فقد باتت معرفتها مسألة وجودية".
لا يلحظ النائب السابق أيّ آفاق لتحسن أوضاع الناطقين بالروسية في أوكرانيا في المدى المنظور، محملاً الغرب المسؤولية عن "مواصلة العمل الممنهج على قطع أوكرانيا عن روسيا، وتكوين نخب لها مثل هذه التوجهات، وتمويل ذلك" على حد قوله. يلخص تساريوف الوضع الراهن في بلاده أنّ "أوكرانيا تريد استنساخ تجربة دول البلطيق، وتأسف لعدم استطاعتها حرمان سكانها الروس من الجنسية، بينما يغض الاتحاد الأوروبي النظر عن هذا التمييز".
منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 واستقلال دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) تواجه الجاليات الروسية المقيمة فيها تدهوراً في أوضاعها في ظلّ صدور قوانين تميز بين السكان الأصليين والأقليات في مختلف المجالات، بما فيها حرمانهم من الحق في نيل الجنسية في لاتفيا وإستونيا. وبعد سقوط الرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، عام 2014، توجهت كييف هي الأخرى نحو قطع صلاتها بموسكو مقابل الاندماج في الاتحاد الأوروبي على الرغم من ماضيها المشترك مع موسكو.
تظهر استطلاعات للرأي أجريت، في السنوات الماضية، تبايناً كبيراً في نسبة السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا بحسب المنطقة، وتصل إلى 90 في المائة جنوب شرق البلاد ونحو 50 في المائة وسط أوكرانيا مقابل هيمنة اللغة الأوكرانية في المقاطعات الغربية. وفي غياب أرقام دقيقة يقدر مركز "رازومكوف" للدراسات الاقتصادية والسياسية في كييف نسبة مواطني أوكرانيا الذين يعتبرون اللغة الروسية لغتهم الأم، بـ14 في المائة مقابل 75 في المائة من الناطقين بالأوكرانية. أما 14 في المائة من بين إجمالي عدد سكان أوكرانيا البالغ 42.5 مليون نسمة، فيعتبرون أنفسهم ناطقين باللغتين بنفس الدرجة، وفق المركز. من جهة أخرى، تشير بيانات معهد "غالوب" الأميركي إلى أنّ 83 في المائة من الأوكرانيين يستخدمون اللغة الروسية للبحث على الإنترنت.
ويرجع تساريوف هذا التباين في الأرقام إلى الاختلاف في المنهجية، إذ إنّ اللغة الروسية تعتبر أكثر انتشاراً في المناطق الحضرية الأكثر استخداماً للإنترنت، وبالتالي تهيمن على طلبات البحث، بينما تنطبق دراسة "رازومكوف" على كلّ أنحاء البلاد.
وكان الرئيس الأوكراني، بيترو بوروشينكو، قد صادق، في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، على قانون مثير للجدل من شأنه تعزيز مكانة اللغة الأوكرانية في المنظومة التعليمية للبلاد وحظر لغات الأقليات، أي الروسية والمجرية والرومانية. وبموجب القانون الجديد، فإنّ الدراسة باللغة الروسية ستقتصر على المدارس الابتدائية اعتباراً من عام 2018، على أن يجري حظرها بشكل كامل بدءاً من عام 2020. ومع ذلك، استثنى القانون التتار والقرائيين (مجموعة لغوية)، في تأكيد على أنّهم سكان أصليون في أوكرانيا وليسوا أقليات.