روسينوفو السوفييتيّة وجهة المكفوفين

11 اغسطس 2016
مصنع للمكفوفين في روسينوفو (العربي الجديد)
+ الخط -
لا يريد الأشخاص المكفوفون في روسيا العزلة. وإن كان الاتحاد السوفييتي السابق قد منحهم بلدة صغيرة صمّمت وفق حاجاتهم، إلا أن أكثر ما يرغبون فيه هو اعتراف المجتمع بهم والاندماج

روسينوفو بلدة صغيرة فيها شارع واحد فقط. تقع في مقاطعة كالوغا، مائة كيلومتر جنوب غرب موسكو. خلال عهد الاتحاد السوفييتي السابق، كان يعمل في مصنع أُنشئ فيها مئات الأشخاص المكفوفين، وقد صمّم خصيصاً لهم. المصنع الذي تأسّس في العام 1948، والتابع لاتحاد المكفوفين، كان يصنع قطعاً للتلفزيونات، وكانت أجور العاملين فيه جيدة جداً.

وبعد تفكّك الاتحاد في العام 1991، فقد المصنع قدرته التنافسية في ظل انتقال روسيا إلى نظام اقتصاد السوق، وإلغاء إعفاء مصانع اتحاد المكفوفين من الضرائب. ويقول رئيس اتحاد المكفوفين في منطقة بوروفسكي التي تتبع لها روسينوفو، ألكسندر راكوفيتش، إنه لم يعد يعمل في المصنع إلّا 50 من أصل 190 شخصاً مكفوفاً يقيمون في القرية. ويتقاضى هؤلاء أجوراً زهيدة تتراوح ما بين 100 و150 دولاراً، بالإضافة إلى راتب آخر خاص بالإعاقة، وتتراوح قيمته ما بين 250 و300 دولار.

كان راكوفيتش فقد بصره مذ كان طفلاً في الخامسة من عمره. إلّا أنه رفض الاستسلام وقرّر تحدّي إعاقته وممارسة الرياضة وتعلّم تحديد الاتجاهات. وبعكس الكثير من الأشخاص المكفوفين، لا يجد صعوبة في التعامل مع المبصرين. لدى حديثه معهم، ينظر إليهم ويبتسم، ما يجعله ينسى إعاقته. وحول عمل المصنع في الوقت الحالي، يوضح أنه ينتج الورق المقوّى، فيما يصنع الأشخاص المكفوفون الماصّات الطبية وألعاب الطاولة وقطعاً لأجهزة الراديو وغيرها. وعملهم لا يحقّق أرباحاً، فتُستخدم إيرادات إنتاج الورق المقوى لتغطية الخسائر.

يضيف راكوفيتش أنه خلال عهد الاتحاد السوفييتي، كان يعمل في المصنع أكثر من ألف شخص، وقد جاء 600 شخص مكفوف من مختلف أنحاء البلاد. يتابع أن الوضع تدهور خلال تسعينيات القرن الماضي وتوقفت أعمال البناء وساء وضع الطرقات ما جعل الأشخاص المكفوفين معرضين للسقوط. يلفت إلى أنّه في ظلّ تردي الأوضاع الاقتصادية ومنظومة الرعاية الاجتماعية للأشخاص المكفوفين، يتجه الكثير منهم للبحث عن فرص أفضل في سوق العمل، من خلال تعلّم مهن أخرى على غرار التدليك. يقول إن التدليك يعد المجال الوحيد الذي يستطيع الكفيف من خلاله منافسة الآخرين. كذلك، يمكن للكفيف أن يعمل في مصانع خاصة بصنع الأدوات المكتبية ومراكز خدمة العملاء (كول سنتر).

وكان راكوفيتش من بين أولئك الذين رفضوا العيش بين الأشخاص المكفوفين في عزلتهم. وعمل بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في التجارة وتربية الدواجن، ما أمّن له دخلاً جيّداً.

منذ عهد الاتحاد السوفييتي السابق، لم يقتصر برنامج استيعاب الأشخاص المكفوفين في روسينوفو على المصنع، بل شمل أيضاً إقامة بيئة تناسبهم. منها وجود مسكات في الشوارع تساعدهم في الاستدلال على طريقهم، وعزل محطّة الحافلات عن الطريق من خلال أسوار، حتى لا يخرج إليها الشخص المكفوف عن طريق الخطأ، ووضع إشارات مرور صوتية، وأخرى تحذر سائقي السيارات من وجود مشاة مكفوفين.


وخلال السنوات الماضية، أنشئت صالة رياضية وفصل لتعلّم استخدام الكومبيوتر وبرنامج تحويل النص إلى الصوت، بالإضافة إلى مكتبة خاصة تتبع نظام برايل. وفي المصنع طرقات خاصة تربط خطوط الإنتاج بين بعضها البعض، حتّى لا يضلّ العامل المكفوف طريقه.
ولا تخلو حياة الأشخاص المكفوفين في روسينوفو من الفرح. هم يتزوجون وينجبون أطفالاً. يأمل كثيرون أن يكون أولادهم مبصرين، لكن، هناك الكثير من المكفوفين الذين ينتمون إلى الجيلين الثاني والثالث. ولدت ليودميلا من والدين مكفوفين، وتعمل في المصنع منذ أكثر من 30 عاماً. تقول لـ "العربي الجديد": "تتحدر والدتي من مقاطعة كالوغا وقد ولدت مكفوفة. والدي الذي فقد البصر في وقت لاحق، جاء إلى روسينوفو وتعرف إليها وتزوّجا". وعلى الرغم من زواجها من رجل مبصر، إلاّ أن نجل ليودميلا ولد مكفوفاً أيضاً. وحين كبر، صار يعمل مع والدته. إلّا أن ابنة ليودميلا ولدت مبصرة، وتساعد والدتها كثيراً في الأعمال المنزلية.

وفي ظلّ حرمانهم من رؤية العالم من حولهم، يجد الأشخاص المكفوفون في الموسيقى سعادتهم. ففي روسينوفو فرقة موسيقية محترفة تضم أشخاصاً مكفوفين وشخصين مبصرين يساعدان البقية في الصعود إلى خشبة المسرح.

تغيب الإحصائيّات الدقيقة، لكنّ يقدّر عدد الأشخاص المكفوفين في روسيا بنحو مليون، 214 ألفاً منهم مسجّلون في "اتحاد عموم روسيا للمكفوفين"، الذي يهتم بدمجهم في سوق العمل والتعليم والمجتمع والنشاطات الرياضية، ويضم مراكز متخصصة للتأهيل والتدريب والاستجمام، وينشر كتباً تعتمد طريقة برايل وأخرى صوتية.

عدّت تجربة روسينوفو ناجحة خلال عهد الاتحاد السوفييتي، إلاّ أنّ الحلم الأكبر للأشخاص المكفوفين هو اعتراف المجتمع بهم وبالتالي الاندماج فيه، والتخلّص من العزلة. ولا تخلو قصص الأشخاص المكفوفين في روسيا من تجارب ناجحة، لعلّ أبرزها قصة المطربة المكفوفة من أصل جورجي ديانا غورتسكايا، التي أثارت بصوتها الرائع وعزيمتها وألبومها "أنت هنا" (صدر في العام 2000)، و"أنت تعلمين يا ماما" (صدر في العام 2002)، إعجاب الجماهير في كافة أنحاء روسيا وخارجها.

مرتدية نظارتها السوداء، كانت غورتسكايا أول مطربة مكفوفة من أوروبا الشرقية تشارك في مسابقة "يوروفيجن" التي أقيمت في العاصمة الصربية بلغراد في العام 2008.