قبل سنوات قليلة، كانت الشكوك حول ظاهرة التغيّر المناخي لا تزال قائمة. أما اليوم، فقد اختلف الأمر، بدليل التغيّرات الحاصلة. في باريس، تعهدت الدول بالعمل، في انتظار إعداد "الخطة" قبل أن يداهمها الوقت.
المسافة ليست قصيرة لحزم الحقائب والانتقال إلى كوكب جديد وتفادي آثار تغيّر المناخ، إن وجدت حياة فيه. نسمع العلماء ونظنّ أن ما قد يحدث هو مجرّد تهويل. نحسب أن نختفي بسبب الأمراض أو الحروب أو الحوادث، وليس من جرّاء انتقام الكوكب ممّا فعله الإنسان به على مدى السنوات الماضية. يقولون إن دولاً وبشراً قد يختفون. وفي مشهد آخر، لن يتمكّن الناس من التكيّف مع جميع التغيّرات المناخية. في النهاية، سوف يغلبهم غضب الطبيعة. واليوم، في ظلّ تزايد موجات الهجرة إلى الدول الأكثر أماناً، ربّما يجدر بالمهاجرين اختيار المناطق الأقل تأثراً من التغيّر المناخي. وهذا ليس تفكيراً بعيد المدى على الإطلاق. يشهد الكوكب ارتفاعاً في درجات الحرارة وذوباناً في الجليد وارتفاعاً في منسوب مياه البحر وغيرها من الظواهر، وبوتيرة أسرع من المتوقع. هنا يتعزز الخوف، فجميع هذه العوامل هي بمثابة إعلان واضح بأننا نعيش التغيّرات في الوقت الراهن. وكما قالت الباحثة البيئية آن كازينوف لقناة "يورونيوز": "المستقبل متعلّق بما نقوم به خلال السنوات المقبلة"، وإن لم تُشر إلى أن هذا المستقبل يبدو قريباً جداً.
أخيراً، حذّرت إدارة الطيران والفضاء الأميركية "ناسا" من أن تغيّر المناخ يساهم في زيادة درجات حرارة مسطحات البحيرات في العالم بسرعة، ما يهدّد بتدمير المنظومة البيئية للبحيرات، لافتة إلى أن البحيرات تشهد ارتفاعاً في درجة الحرارة يقدّر بـ 0.34 درجة مائوية في المتوسط كل عشر سنوات.
بحسب عالم المحيطات والجيولوجي كولين سمرهايس، سوف يكون هناك رابحون وخاسرون من جرّاء تغيّر المناخ. يضيف: "تفتقر التوقعات العلمية حول تغيّر المناخ إلى اليقين". مع ذلك، يتوقع "ازدياد هطول الأمطار في كلّ من شرق الصين وكولومبيا والإكوادور، في حين يزداد الجفاف في مناطق البحر الكاريبي وتشيلي وغرب الصين والبحر المتوسط والبيرو، كل ذلك بحلول عام 2100. أيضاً، ثمّة توقعات متباينة حول أفريقيا، من حدوث جفاف في الشمال والجنوب، ورطوبة شديدة في أماكن أخرى مثل كينيا". يضيف أننا قد نشهد وفرة مياه في المناطق المدارية الرطبة والمناطق الواقعة على خطوط العرض العالية، فيما ستتناقص ويزداد الجفاف في المناطق على خطوط العرض المتوسطة والمناطق شبه القاحلة من خطوط العرض المنخفضة، ما سيعرض مئات الملايين من الناس إلى أزمة حقيقية.
مسألة الربح والخسارة انعكست على مواقف الدول في مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغيّر المناخ الذي انعقد في باريس بين 30 نوفمبر/تشرين الثاني و11 ديسمبر/كانون الأول الماضيين، وإن نجح ممثلو 195 بلداً في إقرار اتفاق دولي للتصدي للاحتباس الحراري. وأعلن رئيس قمة المناخ ووزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس "تبنّي اتفاق باريس حول المناخ" الذي نصّ على احتواء ظاهرة الاحتباس الحراري وإبقاء ارتفاع حرارة الأرض دون درجتين مائويتين ومواصلة الجهود لجعل هذا الارتفاع 1.5 درجة مائوية.
عنوان الاتفاق بدا إيجابياً، وإن كانت الدول قد حصلت على التأجيل الذي تريد. وبطبيعة الحال، تسعى إلى وداع النفط، وهو ليس بالأمر السهل، خصوصاً بالنسبة إلى تلك التي تعتمد عليه بشكل كامل.
اقرأ أيضاً: نحن متجدّدون!
في هذا السياق، يقول مدير الشبكة العالمية للمناخ وائل حميدان الذي شارك في مؤتمر باريس لـ "العربي الجديد"، إن المؤتمر يعدّ خطوة مهمة لحلّ مشكلة تغيّر المناخ، وإن لم يحقّق جميع الحلول المطلوبة، مشيراً إلى أن "هذا لم يكن هدفه". ويوضح أنه "قدّم الرؤية التي نريد تحقيقها بالإضافة إلى الآلية"، لافتاً إلى أنه يجب العمل على تطبيق هذه الآلية. يضيف أن الدول اتفقت على "الوصول إلى صفر انبعاثات للغازات الدفيئة في النصف الثاني من القرن الحالي، على ألا تتجاوز درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مائوية، علماً أن حرق الوقود الأحفوري (نفط، غاز، فحم حجري) يعد المصدر الأساسي للغازات الدفيئة. من هنا، قال اتفاق باريس بوجوب الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة مع حلول منتصف القرن، وهذا قرار سياسي كبير له تداعيات ضخمة على الاقتصاد العالمي". برأيه، اتفاق باريس هو "بداية نهاية عصر الوقود الأحفوري".
من جهته، يوضح الخبير البيئي ومستشار الموقع البيئي "غرين آريا" ناجي قديح لـ "العربي الجديد"، أن "بعد خمس سنوات على انعقاد مؤتمر كوبنهاغن حول المناخ، لم تتحقّق الأهداف المرجوة، وخصوصاً إقرار اتفاقية دولية قانونية ملزمة تحدد آلية تخفيض الانبعاثات إلى مستوى آمن، والذي كان قبل عام 1990". ويلفت إلى أن المسار "معقّد ويتعلق بالتنمية الاقتصادية للدول، ما يفسّر صعوبة التوافق بينها".
ويشير قديح إلى أن مؤتمر باريس يعدّ استكمالاً للمفاوضات الدولية للتوصل إلى اتفاق، انطلاقاً من قاعدة تاريخية قديمة تتعلّق بتوزيع المسؤوليات بين الدول الكبرى ومساعدتها الدول النامية، موضحاً أن "الدول الصناعية تتحمل مسؤولية تاريخية في ما يتعلق بظاهرة التغيّر المناخي. ما قبل مؤتمر باريس، طرحت الدول الصناعية موضوع المسؤولية المشتركة، خصوصاً أن بعض الدول الناشئة مثل الصين والهند تتحمل مسؤولية كبيرة أيضاً في هذا الإطار".
إذاً، وبحسب قديح، لم يحدد المؤتمر برنامجاً زمنياً أو استراتيجية واضحة أو كيفية توزيع المسؤوليات وتمويل الصندوق الأخضر لمساعدة الدول النامية. يتابع: "في المؤتمر، كانت ثلاثة أصوات. الأول يطالب بألّا تتجاوز درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مائوية، على أن يتحقق ذلك بحلول عام 2050. وجاء هذا الطرح من الدول الأكثر تضرراً من جرّاء تغيّر المناخ (الجزر وغيرها على غرار الفلبين وبنغلاديش). أما الطرح الثاني فهو ألا تتجاوز حرارة الأرض ثلاث درجات بحلول عام 2100، على أن يبدأ العمل على خفض الانبعاثات عام 2020"، لافتاً إلى أن "عدداً من الدول العربية رفضت التخلي عن الوقود الحفوري، واعتمدت سياسة التشكيك في ظاهرة التغيّر المناخي". ويوضح قديح أن الموقف السعودي الرافض، طغى على الموقف العربي. أما الفئة الثالثة، فاختارت "حلاً وسطاً بين 2050 و2100".
ويلفت قديح إلى أن في الأسبوع الأول من المفاوضات، لم يتوصل المشاركون إلى أي اتفاق. كان همّهم التوصل إلى نتيجة مع تأجيل. وحين كانت تميل الكفة لصالح الطرح الأول، تسارع الصين إلى مساندة العرب، إلى أن اصطفت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي إلى جانب الدول المتضررة، وأطلق عليها اسم مجموعة المائة. في المحصّلة، جاء الاتفاق مناسباً للجميع، في ظل وجود نية بتأجيل العمل شرط الالتزام بالوعود.
من هنا، يصف قديح مؤتمر باريس بـ "الإنجاز الناقص" في ظل عدم وجود قرارات إلزامية، غير الاتفاق على الالتزام بالوعود. من جهة أخرى، يرى أن إقرار إعادة التقييم كل خمس سنوات أمر إيجابي.
ماذا عن المستقبل الذي ينتظرنا في حال عدم التزام الدول بتعهداتها؟ يقول قديح إن العلماء يتحدثون عن أحداث تتجاوز قدراتنا على التوقع. في الوقت نفسه، يشير إلى مبادرات ناجحة في عدد من الدول، على غرار ألمانيا التي تعتمد بنسبة 27% على الطاقة المتجددة، فيما أعلنت الهند أنها تعمل على الوصول إلى نسبة 40% من الاعتماد على الطاقة بحلول عام 2040. يتابع إننا "نلعب مع الوقت"، وإن بدا متفائلاً، وخصوصاً إذا أقرت خطة للعمل عام 2030.
بشكل عام، ثمّة مناطق مهددة بالغرق إذا ما ارتفع منسوب مياه البحر، فيما ستعاني منطقة البحر المتوسط من الجفاف، عدا عن زيادة الأعاصير والفيضانات وموجات الصقيع، ما سيؤثر على المزروعات ويؤدي إلى انتشار الأمراض.
اقرأ أيضاً: محميات المحيط الحيوي في العالم العربي
في المقابل، يشرح حميدان إلى أنه بهدف إبقاء حرارة الأرض 1.5 درجة مائوية، علينا الوصول إلى صفر انبعاثات بحلول منتصف القرن، ما يعني أن لدينا 35 عاماً لاستبدال قطاع إنتاج الطاقة، وهذا وقت قصير جداً. بالتالي، لن نستطيع بناء أي معمل يعمل على الوقود الأحفوري بحلول عام 2030، أو استغلال أي حقل نفطي.
يبدو حميدان متفائلاً وهو يلفت إلى أن دولاً عديدة تدرك الخطر الذي يهدد الكوكب. لذلك، "استطعنا التوصل إلى اتفاق يقضي بالتخلّي عن الوقود الأحفوري الذي يعدّ محرك الاقتصاد العالمي، وسبب الثورة الصناعية". في المقابل، يلفت إلى أن ثمّة "نقصاً في التوعية لدى المجتمعات، خصوصاً أن آثار تغيّر المناخ ليست مباشرة ويصعب ربطها بالسلوك البشري". وإن لم نفعل شيئاً على الإطلاق، وهذا أمر غير وارد في ظل وجود آلاف المبادرات حول العالم لتخفيض الانبعاثات الدفيئة، على حد قول حميدان، سيؤدي تغيّر المناخ إلى انهيار الاقتصاد البشري (أي في حال ارتفعت حرارة الأرض إلى أكثر من أربع درجات)، وانقراض نحو نصف الكائنات بحلول منتصف القرن، وانهيار الموارد الاقتصادية البحرية بحلول عام 2050، وخسارة نحو 40% من إنتاج الحبوب، وزيادة الحروب لتأمين المياه والغذاء.
تجدر الإشارة إلى أن الدول التي ستتضرر أكثر هي تلك الجزر الصغيرة التي قد تختفي تحت سطح البحر في نهاية القرن، تتبعها الدول التي لديها موارد محدودة من المياه العذبة، أو تستورد معظم مواردها الغذائية.
إلى ذلك، يتحدث حميدان عن الدول التي تعتمد على الطاقة المتجددة، خصوصاً الدول الاسكندنافية وألمانيا وفرنسا التي تبنت خيار الطاقة المتجددة بنسبة مائة في المائة. يضيف أن دولاً نامية، أيضاً، بدأت تأخذ دوراً ريادياً أيضاً، مثل المغرب وجنوب أفريقيا والصين، وحتى دول صغيرة مثل جزر الكوك. يضيف أن معظم الدول العربية تبنت أهدافاً للحد من الانبعاثات، لكن الخطر يتمثل في اعتماد بعض الدول العربية على النفط في اقتصادها، وبالأخص دول الأوبيك. وهذه لم تبن اقتصاداً بديلاً حتى اليوم، وإن كانت قد أبدت استعدادها لتنويع اقتصادها.
يتابع حميدان أن "الإرادة السياسية والشعبية لم تلتقِ مع توقعاتنا بعد. على سبيل المثال، ثمّة بلدان غير نفطية تريد استغلال مواردها النفطية المحتملة على غرار لبنان. لكنه يخدع نفسه. العالم في طريقه إلى التخلي عن الوقود الأحفوري، في الوقت الذي يتجه لبنان إليه، كالاستثمار في صناعة الحجر مع نهاية العصر الحجري".
بدا العالم جان بيير دوديو واضحاً في حديثه إلى قناة "يورونيوز"، إذ قال: "الآن، في عام 2015، نحن أمام مسؤولياتنا. هذه المسؤوليات واضحة جداً. العلماء يبذلون قصارى جهدهم وبصدق كبير للتشخيص، كالأطباء بالقرب من سرير المريض". ببساطة، أعلن أن الكوكب يحتضر وإن كان ثمّة أمل بالشفاء، وليس بالدعاء وحده. أما العالمة آني كازناف فقالت: "الملاحظات كلها تشير إلى أن المناخ يتغيّر. السؤال المهم هو: هل ثمّة خشية من حدوث تغيير مفاجئ في العقود المقبلة؟ هنا، لا نستطيع الإجابة حقاً".
اقرأ أيضاً: مؤتمر المناخ.. فرصة أخيرة لحماية الكوكب