يعيش الشارع الجزائري هذه الأيام على وقع نقاشات ساخنة بعد توصية تمخضت عنها ندوة الإصلاح التربوي، تدعو لاعتماد اللغة المحكية في السنوات الأولى من التعليم المدرسي، وذلك بين داعم للفكرة وبين رافض لها حفاظاً على اللغة العربيّة الفصحى.
لم يكفِ مرور 53 سنة على الاستقلال الوطني في الجزائر (1962)، لجعل العلاقة بين الناطقين باللغة الفرنسية والذين يُعرفون جزائرياً بـ "المفرنسين" وبين الناطقين باللغة العربية المعروفين بـ "المعربين"، تقوم على العمل المشترك في مجالات الثقافة والفن والإعلام والتربية، بل كانت دوماً خاضعة للتنافر والتشنج والإلغاء المتبادل.
في الوقت الذي يتهم فيه المفرنسون المعربين بالتخلف والعيش خارج الزمن، يتّهم المعربون المفرنسين بالعمالة لفرنسا والسعي إلى الحفاظ على امتدادها في البلاد من خلال تكريس لغتها وزرعها في مفاصل الدولة والمجتمع، رافضين اعتبارها "غنيمة حرب" كما ذهب إلى ذلك الروائي كاتب ياسين.
المدرسة التي عُرّبت بقرار من الرئيس هواري بومدين منتصف سبعينيات القرن العشرين، شكّلت حلبة رئيسية لهذا التجاذب بين الطرفين، وهو المعطى الذي عرقل مشروع التعريب الذي ربطه أنصاره ومنهم بومدين نفسه، باسترجاع السيادة الوطنية، وجعله مقتصراً على المواد الإنسانية، فيما بقيت المواد العلمية مثل الطب والهندسة المعمارية والبيطرة تدرّس باللغة الفرنسية إلى غاية اليوم.
توصيات مثيرة للجدال
بعد خفوت معارك اللغة الذي فرضته التحولات الحاصلة في الشارع الجزائري بسبب تجربة العنف التي عرفتها البلاد، شكلت نهاية شهر يوليو/تموز الفائت عودة قوية لها، من خلال "ندوة الإصلاح التربوي" التي بادرت بها وزارة التربية الوطنية في الجزائر العاصمة والتي تمخضت عنها جملة من التوصيات، منها اعتماد اللغة المحكية في السنة التحضيرية والسنتين الأولى والثانية من الطور الابتدائي.
هذه التوصية غطت على التوصيات الباقية، بما فيها تلك المتعلقة بإعادة النظر في الأساليب القائمة على منهج التلقين، وألهبت مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام المكتوب والمرئي والمسموع الناطق بالعربية، وجرّت إلى ساحة النقاش/ التجاذب جلّ مؤسسات المجتمع وشرائحه.
في هذا الإطار يقول الكاتب عبد الحميد إيزة لـ "العربي الجديد"، إنه من التعسف اعتبار ما يحدث صراعاً بين معربين ومفرنسين، بل هو صراع بين تيارين في داخل المجتمع "تيار يعتمد مقاربات علمية، فيه المعرب والمفرنس، وآخر يعتمد تأجيج العواطف، من خلال ربط اعتماد اللهجة المحكية في السنوات الثلاث الأولى للتعليم بمحاربة اللغة العربية".
ويذكّر صاحب دار "أوال" للنشر بالنقاش الذي دار في المغرب قبل عام حول المسألة نفسها، لافتاً إلى وجوب تركها في متناول الخبراء، لدراستها في ضوء علوم التربية ورهانات الشارع الجزائري الجديد.
اقرأ أيضاً: لويزة إيغيل أحريز.. حكاية مجاهدة جزائريّة
نعم للغة الإنجليزيّة
هذه "الحرائق" التي أثارتها القضية في المنابر المختلفة، إذ لم يخلُ منبر أو مجلس جزائري منها، بين رافض ومساند، حمل وزيرة التربية نورية بن غريط - عُيّنت في مايو/ أيار عام 2014 خلفاً للوزير أبي بكر بن بوزيد الذي أدار القطاع ربع قرن كامل - على التصريح في "الملتقى الجهوي الثاني لتقييم الامتحانات" في الجزائر العاصمة، بأن التوصية لا تعني قراراً ملزماً، وأن وزارتها لا تفكر في استبدال اللغة العربية لا بلهجة محكية تعرف في الجزائر بالدارجة ولا بلغة أجنبية، مذكّرة بأن الدستور يعتبر العربية لغة رسمية للبلاد.
لكن حرارة التشنجات التي طبعت تعاطي الأطراف المختلفة مع الأمر، أجّجت من جديد الدعوة إلى رحيل الوزيرة من طرف الجمعيات والأحزاب المناوئة لسياستها التربوية، لا سيّما مع جهلها للغة العربية الذي جعلها موضع تهكم الشارع الجزائري منذ تعيينها، انطلاقاً من كلمات مغلوطة تفوّهت بها في بعض تصريحاتها.
في هذا الإطار بادرت جمعيات ونقابات من المجتمع المدني، في مقدمتها "الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين"، إلى حملة جمع تواقيع تطالب الحكومة بوضع حدّ لما أسمته "مجازر في حق الهوية الوطنية". وفي بيان للاتحاد المذكور، تلقّت "العربي الجديد" نسخة منه تساءل: "هل الهدف هو صرف النظر عن إخفاقات المنظومة التربوية، وتعليقها على مشجب اللغة العربية؟ أم أنها العقدة التي تلاحقنا نحن الكبار الذين عايشوا فترة الاحتلال وتلقوا تعليمهم باللغة الفرنسية؟".
وأشار البيان إلى أن الوزيرة ترغب في تدريس مواد العربية باللهجة العامية، بينما تصر في تعليمات صارمة لأساتذة الفرنسية، بعدم استعمال أي لغة أو لهجة مهما كانت غير اللغة الفرنسية للشرح والتوضيح للتلاميذ.
وقد انضم "الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين" الذي يعدّ كبرى نقابات القطاع، إلى الداعين إلى جعل الإنجليزية اللغة الأجنبية الأولى في مراحل التعليم المختلفة، مبرراً ذلك بتفوق التلاميذ الجزائريين فيها، ولأنها اللغة العالمية والعلمية الأولى، سعياً لمواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي. وسأل: "هل يعقل أن نكون فرنسيين أكثر من فرنسا وقد أدرجت تدريس اللغة الإنجليزية ابتداء من السنة الثانية ابتدائي؟".
خوفاً من الاندثار
من جهته، يقول الباحث في التراث الجزائري سعيد جاب الخير إن الاهتمام بتعليم اللغة الجزائرية الشعبية (لغة الشعر الشعبي/الملحون) يعتبر مسألة ضرورية لحماية التراث الشعبي من الاندثار، حتى تتعرف الأجيال الجديدة على الكنوز الثقافية والروحانية التي تختزنها هذه اللغة المقموعة باعتبار العربية الفصحى لغة مقدسة.
ويضيف صاحب كتاب "التصوف والإبداع" لـ "العربي الجديد" أنه على العربية أن تتخلص من هيمنة المقدس، لتتمكن فعلاً من إخراج كنوزها التنويرية إلى العالم، "ذلك أن ثمّة عربية تثمر جبران خليل جبران، وأخرى تثمر أيمن الظواهري".
أما الكاتب كمال قرور رئيس "منتدى المواطنة"، فيذهب إلى حدّ المطالبة بمحاكمة الوزيرة وجماعتها، ليس على خيار اللهجة المحكية الذي يجب ترك الفصل فيه إلى المختصين، بل لأنها أعلنت فشل الإصلاحات التي ساهمت في هندستها منذ ربع قرن، "وها هي تدعو إلى إصلاحات جديدة من غير أي تقييم أو اعتذار، وكأن التلميذ الجزائري فأر اختبار".
ثرثرة صيف؟
في السياق، سجّلت "العربي الجديد" شبه إجماع في الشارع الجزائري لا سيّما في العاصمة ومدينة بومرداس، حول القضية التي اعتبرت "ثرثرة صيف" تسعى الحكومة من خلالها إلى التغطية على فشلها في مجالات مختلفة - خصوصاً بعد تدني أسعار النفط - وإثارة نقاشات ثانوية تستبعد نقاشات واجبة حول المستقبل ورهاناته. وبالنسبة إلى الصيدلي سعيد بن قمري، المدرسة الجزائرية التي تستقبل ثمانية ملايين تلميذ بعد أسابيع قليلة، بحاجة إلى إصلاح جذري يتعلق بالرؤية التربوية نفسها، بغض النظر عن اللغة المستعملة فيها.
وكانت الدعوة إلى اعتماد اللغة المحكية في الجزائر قد ظهرت في مطلع القرن العشرين، من طرف الإدارة الفرنسية، وقد واجهتها فعاليات المجتمع المدني ومنها "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، بالرفض التام. هي الخلفية التاريخية التي جعلت معظم الجزائريين يرون في دعوة وزارة التربية اليوم، خطوة أملاها ما يعرف في الجزائر بـ "حزب فرنسا"، ولم يقبلوا النظر فيها حتى من طرف الخبراء والمختصين في اللسانيات وعلوم التربية.
اقرأ أيضاً سعيدة بن حبيلس: الهلال الأحمر الجزائريّ لأجل كرامة الإنسان