14 مليون فقير في ألمانيا الثرية

22 اغسطس 2021
متسوّلة في دورتموند (ماريو هومس/ Getty)
+ الخط -

رغم أن ألمانيا التي يناهز عدد سكانها 83 مليوناً تضم أكبر عدد من أصحاب الملايين في أوروبا وتعتبر إحدى الدول الأكثر تصديراً وإنتاجاً، والأكثر ثراءً بالتالي بين دول الاتحاد الأوروبي الـ27، يعيش نحو 14 مليون شخص فيها عند خط الفقر. بعضهم يتأثرون بنقص المداخيل، وبينهم مهاجرون ومتقاعدون وأسر وشبان يمارسون مهناً بسيطة مهددون بالفقر تقدم لهم منظمات خيرية مثل جمعية "تافل" مساعدات مجانية على شكل أغذية تتبرع بها متاجر كبيرة وموردون يملكون فائضاً في السلع. 
يشبه نموذج الرفاهية في ألمانيا ذلك في الدول الإسكندنافية، لكن شبكة الأمان الاجتماعي فيها تعاني من فجوات أكبر بكثير. على سبيل المثال، تستفيد نحو 450 أسرة أسبوعياً من مساعدات منظمة "تافل" في إحدى المناطق القريبة من مدينة كولونيا (غرب).
خط الفقر بالمعايير الألمانية هو وصول الفرد إلى 60 في المائة من متوسط دخل يناهز 1500 يورو (1800 دولار) شهرياً. ويعني ذلك أن الأسر التي تتلقى مساعدات أو إعانات شهرية سواء من بلديات أو مكاتب العمل والتعويض عن البطالة أو المرض، خصوصاً تلك المؤلفة من آباء أو أمهات غالباً يربون أطفالاً بمفردهم، تعاني في توفير ما يكفي للعيش فوق خط الفقر. 
وفي حالات تشهد تدخل الدولة أو بلديات ولايات مختلفة من أجل دفع إيجار مساكن للتخفيف عن كاهل محدودي الدخل، يصبح اللجوء إلى الجمعيات الخيرية مثل "تافل" أحد حلول توفير الطعام. كما يجد بعض العاملين بدوام جزئي أنفسهم، بعد دفع فواتيرهم الشهرية، أكثر عرضة للانضمام إلى قوافل الفقراء. ويصرح أحد أشهر خبراء الفقر في ألمانيا البروفسور في جامعة كولونيا، كريستوف بيترفيغ، لقناة "إيه آر دي"، بأن "الأمر يثير القلق ويقرع جرس الإنذار مع اتساع الاستقطاب والفجوة منذ عام 2016 تحديداً، فالأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقرا".   

ويعزو منتقدون لسياسات الإصلاح التي تبنتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 2000 برئاسة المستشار غيرهارد شرودر (اجتماعي ديمقراطي)، وبعده المستشارة أنجيلا ميركل منذ عام 2005، اتساع الفقر إلى تدني الأجور المدفوعة. 
وترصد تقارير اضطرار أشخاص إلى العمل صباحاً كموزعي صحف، ومساءً في مطاعم بيتزا كي يستطيعوا تأمين دخل كاف لأسرهم، "ما يجعلهم غير سعيدين بوظائفهم التي لا تحسّن وضعهم المالي، وتزيدهم فقراً"، بحسب ما يقول الخبير كريستوف بوترفيغ. يضيف: "رغم أن نسبة العاطلين من العمل منخفضة في ألمانيا حيث يلتحق أكثر من 75 في المائة من البالغين بسوق العمل، لكن مشكلة تدني الرواتب لا تحفز البعض على البقاء في سوق العمل". 
المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الألمان منذ إدخال الإصلاحات التي هدفت قبل 20 عاماً إلى جعل الشركات أكثر مرونة وتنافسية، تتمثل في أن الحد الأدنى لأجور ساعة العمل الواحدة لا يتجاوز أكثر من 8 يورو (9.4 دولارات)، علماً أن هذا الأجر أكبر بضعفين في الدنمارك سواء بالنسبة إلى المواطنين أو الأوروبيين القادمين للعمل فيها. 
ويعتبر هذا الرقم أحد أدنى الأجور في أوروبا. وقد حاولت النقابات تعديله، لكن تحالف الحكومة (المحافظ ويسار الوسط) رفض ذلك خشية أن يؤثر على مرونة وتنافسية السوق الألماني. وهكذا بات الوجه الثاني لعملة الثراء الألماني ورفاهية المجتمع، أسر تعاني ومتقاعدين بلا إيرادات كافية. 

يعطي فقيراً بعض الطعام (ماريو هومس/ Getty)
يعطي فقيراً بعض الطعام (ماريو هومس/ Getty)

أيضاً، تنعكس الشكوى من الفقر واتساع الفجوة بين محدودي الدخل والأثرياء على الخيارات السياسية للمواطنين. ولا يشمل ذلك فقط تماهي ميول الطبقات الفقيرة مع الخطاب الشعبوي في حزب "البديل لأجل ألمانيا" القومي المتطرف، بل يتعداه إلى تأييد "حزب الكنبة" أي أولئك الذين لا يصوتون في الانتخابات. وهو ما يلفت إليه عدد من الباحثين الألمان بينهم أستاذ العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة برلين الحرة، بوريس فورمان، بقوله إن "نتائج الانتخابات العامة عام 2017 وبعدها تلك الخاصة بالولايات، والتي أكدت تراجع الحزب الاجتماعي الديمقراطي (يسار وسط) وفي شكل أقل الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة ميركل، تعكس تغيّر ميول الناس واهتمامهم أكثر بقضايا الفقر والمساواة والعدالة الاجتماعية". 
وأفاد تقرير أصدرته مؤسسة "بيرتلسمان ستيفتونغ" بعد انتخابات عام 2017 بأن نسب المشاركة بين المجموعات المصنفة فقيرة لم تتجاوز 58 في المائة، فيما ناهزت 76 في المائة لدى باقي الفئات.  
ويبدي البعض قلقهم من أن المشاركة الضعيفة في الانتخابات وقدرة الخطاب الشعبوي لليمين المتشدد على جذب هذه الفئات إليه، مؤشر لا يبشر بالخير مع اقتراب الانتخابات المقررة في 26 سبتمبر/ أيلول المقبل. ويرى الباحث في شؤون الديمقراطية بمؤسسة "بيرتلسمان ستيفتونغ"، روبرت فيركامب، أن "حزب البديل لأجل ألمانيا حفز فئة الفقراء على المشاركة في الانتخابات العامة والمحلية الأخيرة، لكن بعدما اختبروا وجود هذا الحزب في البرلمان لمدة 4 أعوام، أخشى أن نسبة المشاركة بينهم لن تكون كبيرة، إذ لا يمكن أن يقدم الحزب أي شيء لهم، وهو حال باقي الأحزاب". 

من هنا، يتفق الخبراء على أن الفقر الاقتصادي في ألمانيا ليس محصوراً في قلة الموارد المالية لدى ملايين من الناس، بل في قلة مشاركتهم في تقرير مصيرهم، على الصعيدين المحلي والاتحادي، ما ينذر بمزيد من الاستقطاب والتهميش لطبقة الفقراء، في أكثر المجتمعات الثرية بالاتحاد الأوروبي.

المساهمون