10 أشهر تهجير... الآلاف يحلمون بالعودة إلى قرى جنوب لبنان

24 اغسطس 2024
عائلات مهجّرة من قرى حدودية تطلب المساعدة في صور (حسين بيضون)
+ الخط -

نزح أكثر من 100 ألف شخص قسراً من قرى جنوبي لبنان الحدودية بعد التصعيد مع الاحتلال الإسرائيلي في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" وغالبية هؤلاء يعيشون ظروفاً صعبة، ويحلمون بالعودة إلى قراهم.

في غرفة لا تتجاوز مساحتها سبعة أمتار في حارة المسيحيّين بمدينة صور، جنوبي لبنان، تعيش وفاء يوسف الدرويش، مع شقيقتها، بعدما أرغمتها الاشتباكات المسلحة على النزوح من بلدة الضهيرة الحدودية، حيث كانت تعيش وتعمل في قطاع الزراعة وإنتاج زيت الزيتون وبيعه، قبل أن تصبح المنطقة في مرمى غارات الاحتلال الإسرائيلي.
لم تكن رحلة التهجير سهلة لوفاء قبل أن تستقر في منزلها الحالي، فقد غادرت الضهيرة بعد نحو 15 يوماً على بدء الحرب على الجبهة الجنوبية للبنان، واحتمت أولاً في مركزٍ تابع لقوات الأمم المتحدة (يونيفيل)، قبل أن تنتقل إلى إحدى المدارس المخصّصة لإيواء المهجرين في صور، حيث واجهت ظروف عيش صعبة، فقررت بعد فترة قصيرة السكن مع أقرباء لها، بيد أنها لم تطل المدة باعتبار أن "العائلة كبيرة، والنازح لا يرتاح نفسياً"، ثم انتقلت إلى "حارة المسيحيّين" حيث أتاحت لها صديقة غرفة من دون أي مقابل مادي "باستثناء دفع فواتير الكهرباء واشتراك المولد الخاص".
كل ما تتمناه الدرويش اليوم هو العودة إلى أرضها، وتقول: "نحن مزارعون مسالمون فرضت عليهم الحرب، وخسرنا أرزاقنا ومنازلنا، فمن سيعوضنا؟ أعيش بلا عمل، فالسوق واقف في الجنوب، والمنطقة كلّها تعاني. أولاد الحلال كُثر، وبفضلهم نستطيع الصمود، وهناك أفراد من عائلتي يعيشون في المهجر، وتصلني منهم مائة دولار شهرياً، وهناك بعض المساعدات التي يقدّمها اتحاد بلديات صور، لكني لا أريد المال ولا المساعدات، أريد فقط العودة إلى الضهيرة".

تأمل انتهاء الحرب والعودة إلى قريتها (حسين بيضون)
تأمل انتهاء الحرب والعودة إلى قريتها (حسين بيضون)

بدوره، أرغم قاسم بيضون وأولاده الثمانية على ترك منزله في بنت جبيل بمحافظة النبطية بفعل الغارات الإسرائيلية، فتوجّه أولاً إلى عين بعال، وهي إحدى قرى قضاء صور، ليسكن عند شقيقته لنحو شهرين، ثم انتقل إلى منطقة الحوش، واستأجر منزلاً لشهرين تقريباً، وغادره بعدما أراد مالكوه العودة إليه، ليتوجه إلى برج الشمالي، حيث سكن في منزل لأقاربه "بالإعارة"، وعلى حدّ قوله: "كان المكان بمثابة خربة، فنظفته وأجريت له أعمال صيانة، وكلفني ذلك ما بين 300 إلى 400 دولار، وسكنت فيه لفترة، لكن أصحابه أرادوا استرجاعه، فبحثت عن منزل آخر، وأنا أعيش فيه منذ 3 أشهر مقابل إيجار 450 دولار شهرياً".
يقول بيضون لـ"العربي الجديد": "أنا موظف في وزارة الشؤون الاجتماعية، ولديّ حملة حج وعمرة، وكنت أملك محلاً لبيع النرجيلة ومستلزماتها، وهو مقفلٌ منذ بدء الحرب، وغالبية البضائع تلفت، وقسم قليل منها تمكنا من نقله أو بيعه، ومن ثم خسائر شاملة. هناك غياب تام للدولة، ومساعدات قليلة تصل إلى العائلات من بعض الجمعيات والمنظمات الدولية، عبارة عن حصصٍ غذائية ومواد تنظيف، إلى جانب مبالغ مالية يقدّمها حزب الله، لكن ذلك لا يكفي في ظلّ الفواتير المرتفعة وكلفة الخدمات والحاجيات الأساسية للعيش".

تضم مدينة صور 5 مراكز إيواء يعيش فيها نحو 1100 مهجّر

يضيف: "لا مكان آخر نقصده في ظل ترقّب التطورات وارتفاع احتمال توسع الحرب، فراتبي لا يتجاوز أربعين دولاراً، ولا أتقاضاه بشكل منتظم في ظل الأزمة، ومحلي مقفل، وحملات الحج والعمرة متوقفة أيضاً. كان لدينا بعض المدخرات، وصرفناهم في ظل طول أمد الحرب، وابني في أميركا أحياناً يرسل 100 أو 200 دولار، لكني لا أقوى على استئجار منزل في بيروت أو مناطق جبل لبنان في ظل ارتفاع الايجارات في الفترة الأخيرة، وقد تجاوزت حاجز الألف دولار شهرياً، ومن ثم لا خيارات لدينا سوى البقاء هنا".
غادر مصطفى السيّد وأولاده قرية بيت ليف التي نالت حصّة كبيرة من الدمار والشهداء بفعل القصف الإسرائيلي في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وانتقل إلى مدرسة في صور تحولت إلى مركز لإيواء المهجرين، ولا يزال يعيش في أحد صفوفها حتى الآن، إذ لا قدرة مالية لديه للانتقال إلى مكان آخر رغم ظروف العيش القاسية، إذ تتقاسم العائلات حماماً مشتركاً، ويعانون نقصاً في العديد من الاحتياجات الأساسية، رغم أن اتحاد البلديات يوفر بعض الحصص الغذائية ومواد التنظيف.
على صوت المروحة التي يسارع السيد إلى تشغيلها قبل انقطاع التيار الكهربائي في محاولة لمقاومة درجات الحرارة المرتفعة، يقول لـ"العربي الجديد" عن أوضاعهم: "حياتنا صعبة منذ قدومنا إلى هنا، أسرتي مكونة من 11 فرداً، وكنا نأكل ما نزرعه ونعيش في أرضنا، والآن لم يعد باستطاعتنا الصمود. نستدين من هنا وهناك بعدما كنا نعيش مستورين، وفي أول فترة الحرب كان لدينا بعض المال، وكنا نذهب إلى المطاعم، ونخرج مع الأولاد، فلم نكن نتصوّر أن تطول الحرب كل هذا، فكان أن صمدنا شهرين، أنفقنا فيها كل مدخراتنا".

البقاء في مدارس الإيواء ليس خياراً محبباً (حسين بيضون)
البقاء في مدارس الإيواء ليس خياراً محبباً (حسين بيضون)

لا تملك عائلة السيّد ترك المدرسة في حال توسعت الحرب، فظروفهم المادية غاية في الصعوبة، وقد بدأ العمل قبل نحو عشرين يوماً في مجال الزراعة بمشروع تابع لاتحاد البلديات بالتعاون مع إحدى المنظمات، وذلك ضمن محاولاته ضمان الصمود.
ويقول مدير غرفة عمليات وحدة الكوارث في اتحاد بلديات صور، مرتضى مهنا، لـ"العربي الجديد": "تستضيف مدينة صور حالياً نحو 28100 مهجّر، بإجمالي 7621 عائلة، من أصل ما يزيد عن 102 ألف شخص غادروا قراهم وبلداتهم في جنوبي لبنان منذ 8 أكتوبر الماضي بفعل قصف الاحتلال الإسرائيلي، وقد توزع بعض هؤلاء بين 5 مراكز إيواء كانت في الأساس مدارس، وتؤوي حالياً نحو 1100 مهجّر، (250 عائلة تقريباً)، والباقون يعيشون في منازل مستأجرة أو عند أقاربهم، وهناك من قدمت لهم بيوتاً أو مكاتب وأماكن شاغرة مجاناً، أو استفادوا من بدلات ايجار أمنتها لهم جمعيات محلية في قرى وبلدات تعتبر شبه آمنة". 
وينشط فريق عمل غرفة العمليات على مدار الساعة من أجل مواكبة أوضاع المهجرين، وتحديث الأرقام المعروضة على شاشة كبيرة في الصالة، بينما تتوافد عليها عائلات من عدة قرى حدودية طلباً للمساعدة، سواء للحصول على حصصٍ غذائية، أو هرباً من القصف والبحث عن مكان آمن للمبيت.

غرفة عمليات وحدة الكوارث في اتحاد بلديات صور (حسين بيضون)
غرفة عمليات وحدة الكوارث في اتحاد بلديات صور (حسين بيضون)

يوضح مهنا: "هناك عائلات أتت في بداية الحرب ثم غادرت، وهناك من اختاروا البقاء، لكن مراكز الإيواء عامة لم تفرغ يوماً، علماً أن هناك أشخاص نزحوا إلى خارج مناطق صور، مثل جزين الجنوبية، وبيروت، وجبل لبنان، بفعل التهديدات الإسرائيلية الأخيرة، وتزايد المخاوف في ظل الحديث عن احتمال توسع رقعة الحرب، بيد أن الإقبال لا يزال متركزاً على صور أكثر من بقية المناطق".
ويلفت إلى أن "وحدة الكوارث تسعى مع عدد من المنظمات الدولية لتأمين الاحتياجات الأساسية للنازحين، من فرش وبطانيات، ووجبات غذائية، وحصص غذائية جاهزة للأكل، ومواد تنظيف مرتين في الشهر، وذلك بهدف تسيير أمورهم قليلاً، إذ ليست كل احتياجاتهم مؤمنة، فمثلاً الحصص الغذائية في المراكز تضم حبوباً في الغالب، وتنقصها مواد أساسية في الطبخ مثل الزيت والخضروات واللحوم، ما يدفع النازحين إلى تأمينها بأنفسهم".

ويشير مهنا إلى أنّ "الوضع اليوم يختلف عن ما كان عليه خلال عدوان 2006، فالموارد اللازمة لتأمين احتياجات النازحين كانت متوفرة وقتها، أما اليوم فهناك صعوبات في تأمينها. نحن على أبواب الشهر الحادي عشر من الحرب، ووزعنا حصصاً غذائية ومواد تنظيف أربع مرات فقط، وهذا يدلل على أن الجمعيات أو المنظمات الدولية لا تستجيب بالقدر الكافي، وتستغل بعضها ذريعة أن الدولة اللبنانية لم تعلن حالة الحرب، والدولة بدورها عاجزة عن الاستجابة، بينما مجلس الجنوب كان له دور، لكن تظل إمكاناته قليلة".
ويؤكد مدير غرفة عمليات وحدة الكوارث في اتحاد بلديات صور: "نملك الاستعداد البشري والجهوزية لاستقبال أعداد أكبر من النازحين لو توسّعت الحرب، على غرار ما حصل في عام 2006، فصور كانت دائماً بمثابة الملاذ الآمن للناس، وقد ينزح إليها ما بين 50 إلى 80 ألفاً، لكننا بحاجة إلى الموارد المالية والعينية، مثل الفرش، والمياه، والأكل، ومواد النظافة، والبطانيات، وغيرها، فلا مخزون لدينا، ونأمل أن تكون سرعة التحرك أكبر عند الجمعيات لمواجهة سيناريو تطور الأوضاع أو اتساع الحرب".

المساهمون