بدلاً من إتلافها أو رميها والإضرار بالبيئة، عمل الفنان المغربي يونس ميلودي على تحويل أشرطة الكاسيت القديمة التي لم تعد تستخدم إلى لوحات فنية، مؤسساً مشروعه "كاسيطا".
ينكبّ الفنان المغربي يونس ميلودي في مرسمه على رصّ أشرطة "الكاسيت" الصوتية المهملة التي جمعها، يُصنّفها بحسب المواضيع والأفكار، ويُجهز الخشب الذي يشكل الإطار الأساسي للوحات، واللصاق والألوان المطلوبة، فهي العُدّة التي يستخدمها لتجسيد رؤيته الفنية الحديثة وشغفه المتجدد. من يتأمل عدد الأشرطة المستعملة في لوحة واحدة، يفهم مدى قدرة هذا الفنان التشكيلي على إعادة تدوير مادة مُهملة طواها النسيان، ومساهمته في الحفاظ على البيئة.
يقول ميلودي لـ العربي الجديد"، وهو يضع لمسة أخيرة على لوحة فنية: "أشعر داخل هذا الفضاء وكأن أجنحة تنبت لي، أنشغل بمنح معنى آخر لأداة جامدة تنفتح عبرها المسارب لطاقة الحلم والخيال والجمال والتغيير من خلال المساهمة في حماية البيئة والتقليل من التلوث".
ينطلق مشروع ميلودي الذي سماه "كاسيطا" من فكرة إعادة تحويل تلك الأشرطة القديمة إلى لوحات فنية وبورتريهات صديقة للبيئة والإنسان، ناطقة بإرث ثقافي، ومستفيدة من مسار مستدام يعيش مدة طويلة بدلاً من جعلها أداة من أدوات الإضرار بالنظام البيئي. هي نافذة بيئية وجمالية في فن إعادة التدوير يفتحها المشروع بفضل مؤسسه الذي يهتم بترسيخ رؤية فنية جديدة، كما يستثمر خبراته في مجال تصميم الغرافيك.
يحكي ميلودي أن الفكرة برزت بداية عام 2013 خلال مشاركته في دورة لفن إعادة التدوير. طلب الأساتذة من طلبة المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، البحث عن أدوات ومواد لم تعد مستعملة وإعادة إحيائها في لوحات وأعمال جديدة بلمسة فنية حديثة تستلهم قصصاٍ وتراعي البيئة. يضيف أن تلك الدورة دفعته للبحث والتنقيب، إلى أن "اهتدى إلى الأشرطة الصوتية القديمة، ومدى إمكانية الاستفادة منها وإحيائها بطريقة مبتكرة وجديدة، ومن هناك كانت الانطلاقة".
كانت الخطوة التالية في التعرف إلى فن التدوير وتاريخه ومحاولة توظيف الأشرطة الصوتية في عدة أعمال مثل الألبسة في البداية. وتدريجياً، صقل تجربته وتزود بالمعارف الكافية، وألهمته المادة التي بين يديه فساقه الاندماج إلى التفكير في تطويرها وصولاً إلى الإبداع والابتكار.
"نوستالجيا ملهمة"
تعد الأشرطة الصوتية مُلهمة، لأنها تختزن إرثاً ثقافياً وتستحق الصمود لما تشكله من نوستالجيا جماعية، يقول ميلودي. ويوضح أن هذه الأخيرة تعبر بالنسبة له عن حالة من اكتشاف الذات واسترجاع ماض جميل فيه جزء من الطفولة والشباب، ولذلك كان لا بد له من الغوص فيها لإيجاد الشكل الفني الصادق الذي يكون بمثابة بصمة خاصة به. يتابع: "بعد تخرجي سنة 2017، نظمت أول معرض لـ"كاسيطا" في مسقط رأسي بمدينة وجدة شرقي المغرب، وعملت في لوحاتي على التنوع الثقافي والتراث الغني للمنطقة موسيقياً وفنياً، ولقيت تشجيعاً وإعجاباً بالفكرة دفعاني إلى البحث المتواصل".
منذ تلك المرحلة، خطا ميلودي أول خطوة نحو تطوير المجال الذي يعشقه، وخالجه شعور بالسعادة وهو يخرج من عالمه الضيق إلى فضاء أكثر رحابة، يقاسم فيه الجمهور لوحاته من خلال الإضاءة على عدد من الشخصيات التي بصمت تاريخ المغرب بإنجازاتها المختلفة.
"لا أريد لهذه الأشرطة أن تموت أو أن تصير جزءاً مُهملاً وركاماً يزيد من تأثيرات تغير المناخ، بل أفكر في رعايتها والاهتمام بإعادة تدويرها للمحافظة على البيئة والتقليل من التلوث، وأيضاً إعادة إنتاجها في نسق جديد يعيد القيمة لأداة سهلت انتشار الموسيقى في العالم خلال فترة من الزمن قبل عصر الثورة الرقمية"، يقول.
يستغرق إنجاز لوحة واحدة ما بين 7 إلى 10 أيام، بما معدله 112 شريطاً صوتياً ينبض في قلبها من جديد. يتابع: "في لوحة موسيقى كناوة مثلاً، استثمرت أكثر من 300 كاسيت لإعادة إنتاج هذا التراث الذي يكتسي أبعاداً فنية وروحية".
ويقول ميلودي إنه يبذل جهداً كبيراً في البحث عن الأشرطة الصوتية وجمعها، سواء من الأسواق القديمة المنتشرة في أنحاء البلاد، أو عبر توصيات الأصدقاء في وسائل التواصل الاجتماعي.
ولأن الأشرطة الصوتية تحتوي على مواد بلاستيكية وكيماوية، فإن التخلص منها عشوائياً يؤثر سلباً على الطبيعة والإنسان، علماً أنه يمكن الاستفادة منها بهذه الطريقة الإبداعية. من هذا المنطلق الذي يستلهم من التراث والتاريخ المغربيين، ساهم الفنان في إعادة تشكيل عدة بورتريهات نذكر من بينها الكاتبة وعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي، وثريا الشاوي أول ربانة عربية، مروراً بالفنانة الشعبية خربوشة، وهي شاعرة المقاومة التي بقيت قصتها خالدة في الذاكرة الجماعية، والفنان الأمازيغي محمد رويشة الذي تميز بالعزف على آلة الوتر وغيرهم من الأسماء. كما اهتم الفنان بالمجموعات الغنائية التي نقلت نبض الشارع المغربي، فأبدع لوحات لناس الغيوان، ولمشاهب، وكناوة.
أما عربياً، فقد سافر إلى كوكب الشرق، مستحضراً أم كلثوم، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ثم قيثارة السماء فيروز وغيرها من الحناجر الذهبية التي لا يزال صدى صوتها مسموعاً ومنتشراً. "تسافر بك لوحات الفنان يونس ميلودي إلى أيام الزمن الجميل، يخيل لك كأنه ينصت لها والشريط يدور أمامه بينما تنبعث الموسيقى بكلماتها وألحانها جارفة معها سيلاً من الذكريات"، يشرح الصحافي المغربي عبد الحق صبري المهتم بالصحافة الثقافية والشبكات الاجتماعية.
ويبرز أن فكرة تدوير الأشرطة الصوتية مهمة جداً ومفيدة للبيئة بشكل كبير، ومن هنا كان الفنان حريصاً على الاشتغال عليها وفق رؤية تكاملية بتحويل المهمل إلى تحف فنية عبر بصمة خاصة حتى تكاد تسمع نبض القلوب بين الأشرطة الصوتية. اختار هذا الفنان أن يستخدم الأشرطة الصوتية في رسوماته التي تحتفي بالفنانين والموسيقيين الذين كان لهم إسهام كبير في تطوير الفنون بشكل عام. ومن جهة أخرى، فهو يذكرنا بشكل مباشر بالفترات الذهبية لتطور الموسيقى والتكنولوجيا الحديثة، وكيف يؤثر ذلك على نسيان الماضي والتيه وسط تراكمات الحياة اليومية وتحديات المستقبل.
تحديات وعراقيل
لا ينفي مؤسس مشروع "كاسيطا" وجود عدة تحديات وعراقيل فيما يخص الحفاظ على استقرار وتطويره مشروعه، وخصوصاً في ما يتعلق بتذبذب الدخل، ما يحول دون العمل على مساحات شاسعة من حرية الإبداع والتطوير أو في ما يتعلق بتوثيق هذا التراث فنياً، وأيضاً توفر المادة الأولية التي أوشكت على الانقراض في ظل الثورة التكنولوجيا وعصر الرقمنة، ما دفعه إلى التفكير في التعاقد مع شركات للصناعة البلاستيكية لإنتاج الأشرطة الصوتية، لضمان استمرارية مشروعه. لكن من جانب آخر، فهذا التحدي "يمنحه الأمل والإصرار على الاجتهاد والإنتاج ولو في ظروف صعبة، وبكم هائل من الطاقة الإيجابية".
نظم الفنان يونس ميلودي عدة معارض فردية وشارك في أخرى جماعية في عدد من المدن المغربية، وساهم في انتشار فكرة مشروعه مترجمة بشكل ذكي يجذب الأبصار ثم يستدعي الذاكرة الجمعية، لكنه يطمح إلى تسويق عمله الفني في الخارج أمام جمهور متنوع، وفي دول مختلفة، وفق استراتيجية بعيدة المدى ليكون خير سفير لغنى المغرب وتعدده الثقافي، لا لغرض الشهرة التجارية، بل بهدف خلق التغيير ونشر فكرة إعادة التدوير الفني، كفكرة خلاقة وعملية إبداعية ذات تأثير أكبر على الأجيال وأقل على البيئة.