يوم المفقودين... الصليب الأحمر إذ يقوم بما لا تفعله الدول

30 اغسطس 2023
فحوص الطب الشرعي مهمة لكشف مصير المفقودين (الصليب الأحمر)
+ الخط -

في حين تتعدّد المعوّقات التي تعرقل كشف مصير عشرات آلاف المفقودين، وإنهاء معاناة عائلاتهم، تشكّل ثورة العلوم الطبية والتقنية ضمن علوم الأدلة الجنائية والطب الشرعي عاملاً أساسيّاً في مسار التحقيقات، وتتبّع الأثر، وربما تقدم أجوبة لآباء وأمهات وأبناء يتوارثون انتظار الحقيقة. ورغم أن البُعد العلمي والتقني في الكشف عن مصير المفقودين غائب عن تفكير غالبية السلطات الرسمية، لكنه حاضر دائماً لدى الأهالي الطامحين إلى إحقاق العدالة، وتضميد جراحهم بعد أن أنهكهم الانتظار.
في هذا اللقاء الخاص، توضح المديرة الإقليمية لشؤون العلوم الطبية والتقنية الشرعية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الدكتورة دينيز عبود، لـ"العربي الجديد"، أنّ "قضية المفقودين معقدة، ووجود عنصر سياسي في الملف يفاقم الصعوبات، إذ يعوق غياب القرار السياسي الكشف عن مصير كثير من المفقودين، غير أنّ الأصعب يكمن في مدى التزام السلطات بتطبيق الإطار القانوني وفق التزاماتها الدولية، لكننا نحاول تجريد تلك القضية من الانتماءات السياسية عر التركيز على الهدف الإنساني، فهناك والدة تنتظر معرفة مصير نجلها، وأخرى تنتظر أن يقرع ابنها الباب. نتحدث عن ملايين المفقودين في المنطقة العربية، ولا يمكن إحصاء العدد بسبب غياب جهة رسمية لتدوين المعلومات، ومع الأسف، لا يتوفر النضج الفكري الكافي حول إشكالية المفقودين عربيا، فليست قضية معروفة شعبياً، وليست أولوية سياسية، مقارنة مع دول أخرى أدركت حق الأهالي في معرفة مصير المفقودين لطي الصفحة".

ولفتت إلى أنّ "الطب الشرعي يعتمد على تطبيق العلوم في الإطار القانوني، وهي علوم دقيقة لا يتجاوز تطبيقها لغايات إنسانية خمسين عاماً، وتشمل البحث عن المفقودين، وتحديد مصيرهم، وهويتهم، ويقوم عملنا على تجنيد العلم لخدمة القانون، ومساندة المفقود وعائلته، ومؤازرة السلطات المعنية، ويترافق كل ذلك مع آلية عمل طويلة، إذ تتحرك اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعد أن تتقدم عائلة المفقود بطلب تعقب، فنجمع المعلومات من ذويه، مثل اسمه وشكله ومميزاته، ووجود علامة أو وشم أو أثر لعملية جراحية أو لتدخل علاجي، كما نسأل عن المرة الأخيرة التي شاهدوه فيها، ومكان فقدانه، وماذا كان يرتدي حينها وغيرها من التفاصيل".

يبدأ عمل الصليب الأحمر بعد تقدم عائلة المفقود بطلب تعقب لمعرفة مصيره

وأضافت عبود: "تكون مرحلة البحث بحسب ظروف كل بلد، ونتعاون في الكثير من الأحيان مع جمعيات الهلال والصليب الأحمر المحلية. يمكن أن يكون الشخص موجوداً في مركز احتجاز، أو في مخيم، فنعيد الروابط الأسرية. في حال لم نجد الشخص، نباشر في حث السلطات على بدء عملية بحث مترافقة مع دعمنا، إذ يكمن دورنا في مساندة السلطات من خلال النظر بمدى وجود إطار قانوني يضمن للأهالي حق المعرفة. في حال عدم وجود المفقود، نقوم بحث الدول على وضع التشريعات، ثم ننتقل إلى المستوى التقني، إذ نقوم بتعزيز العلوم الطبية والتقنية الشرعية، وتطوير منشآتها ومختبراتها، وترميم المدمرة منها، وتدريب الطاقات البشرية بهدف ضمان وجود الخبرات اللازمة لتحديد مصير المفقودين المتوفين".

عدد خبراء الطب الشرعي العرب محدود (الصليب الأحمر)
عدد خبراء الطب الشرعي العرب محدود (الصليب الأحمر)

تواصل: "تشمل التدريبات مساندة فريق العمل في وضع إجراءات موحدة، والإلمام بكيفية استخراج عيّنات من العظام، وفتح المقابر الجماعية، وانتشال الجثث، وجمع المعلومات، وتوثيقها وحفظها وحمايتها، وإتقان طرق كتابة وصف متكامل عن الجثة، ثم وضعها في كيس وترقيمها، وعند الحاجة، دفنها مؤقتاً في منطقة معروفة في حال امتلاء الثلاجات، كما يحصل في كثير من الدول التي تشهد نزاعات، والتي تمتلئ ثلاجات الموتى فيها خلال الأشهر الأولى من الصراع، وكل هذه إجراءات وقائية كي لا يتحوّل الشخص مجهول الهوية إلى مفقود".
وتحدثت عبود عن "ضرورة التشبيك بين علوم الطب الشرعي المتعددة لكشف هوية المفقودين المتوفين، ومن بينها علوم طب الأسنان الشرعي عندما تكون الجثة متحللة أو محترقة، كون الأسنان تعيش طويلاً، إلى جانب علوم الآثار التي تساعد في تحديد مواقع المقابر الجماعية بحسب التغييرات الجيولوجية للمناطق، ونتفاوض مع الدول للحصول على صور أقمار صناعية، أو صور من الجو لمناطق أو صحارى للنظر بمدى تعرضها للعبث، ما يدل على إمكانية وجود مقبرة جماعية، وهناك علم البصمة الوراثية الذي يتطلب تحليل البصمة الوراثية للأقارب، علماً أن البصمة الوراثية الكاملة ليست موجودة في كل العظام، كما أن تحلّل الجثث فوق بعضها في المقابر الجماعية يجعل مقارنة البصمة الوراثية أكثر صعوبة، وتتطلب خبراء وبرامج وإحصاءات، وهناك علوم مقارنة بصمات الأصابع حال كانت الجثة غير متحلّلة، وعلوم الأنثروبولوجيا المعنية بجمع الهيكل العظمي، والتي يليها أخذ عيّنات الحمض النووي للتثبّت من هوية البقايا البشرية".

تفتقر الجامعات العربية إلى برامج متخصّصة في الأنثروبولوجيا الشرعية

تتابع: "كل تلك العلوم أساسية في عملنا بسبب الفترة الزمنية الطويلة التي يستغرقها صدور القرار السياسي، فعندما نبدأ عمليات البحث، نكون في أغلب الأوقات أمام هياكل عظمية، وهنا تظهر أهمية جمع العيّنات في أقرب وقت ممكن من العائلات لنحصل على قاعدة بيانات مكتملة. لكن آلية العمل في المنطقة العربية لا تستخدم التقاطع العلمي، باستثناء بعض الدول التي تضم فرق عمل تستخدم المنهج التقاطعي، وتفتقر الجامعات العربية إلى برامج متخصّصة في العلوم المعنية بالاستعراف البشري والأنثروبولوجيا الشرعية، علماً أنّنا من أكثر المناطق التي تضم مقابر جماعية ومفقودين، فنجد أنّ بعض العاملين في المختبرات لا يمتلكون الكفاءة العلمية المطلوبة، ومعظمهم يتقن اللغة العربية فقط. لذا هناك حاجة إلى تطوير المناهج العلمية والتدريبية، ولا يمكن أن نغفل تكرار هجرة المتخصّصين، إلى جانب المعوّقات السياسية والتقنية والمادية والمنشآت المدمّرة، كما أن هناك دولا تخضع لعقوبات، ويصعب إدخال المعدات والمستلزمات المطلوبة إليها".

تكثيف التدريب على تقنيات الفحص والتحليل ضرورة (الصليب الأحمر)
تكثيف التدريب على تقنيات الفحص والتحليل ضرورة (الصليب الأحمر)

وبات من الصعب إقناع الدول المانحة المعنية بأهمية ملف المفقودين الذي يناهز في بعض الدول أربعين عاماً، رغم أن بعضها تشدد على ضرورة تسريع العمل للكشف عن مصير المفقودين، وضمان المعاملة الكريمة للجثامين، وعدم تشوهها. تقول دينيز عبود: "من منطلق هويتنا كمنظمة إنسانية، نعمل مع كل الجهات المعنية من سلطات وجماعات مسلحة وتنظيمات، بما يصب في مصلحة عائلات المفقودين، كما هو الحال في رئاستنا للّجنة الثلاثية الفرعية بين العراق والكويت لتحديد مصير المفقودين من جراء حرب الخليج، وأنوه بالالتزام السياسي من قبل الدولتين، فمن دونه لا يمكننا فعل شيء، أمّا في لبنان، فقد سلّمتنا الدولة مهام جمع عيّنات بيولوجية من عائلات المفقودين، وبات لدينا قاعدة بيانات. لكننا ننتظر القرار السياسي لانطلاق عمل الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، للبدء بمقارنة العيّنات التي نتولى حفظها".

يحتاج فتح المقابر الجماعية إلى خبرة ودقة (الصليب الأحمر)
يحتاج فتح المقابر الجماعية إلى خبرة ودقة (الصليب الأحمر)

وتضيف: "بعض الدول لديها بقايا بشرية من دون معلومات لمقارنتها بها، والبعض الآخر يمتلك المعلومات لكن لا بقايا بشرية للمقارنة، ونجد دولاً تملك القدرة المادية لكنها لا تملك القرار السياسي، وهناك دول لا تعرف أنّ قضية المفقودين إشكالية، وأنّها تلعب دوراً أساسيّاً في بناء السلام، وتشكّل عائقاً يعطل العدالة الانتقالية. الصليب الأحمر يعرض على السلطات مساندتها بالتقنيات والخبرات والمعدات لتحديد هوية المتوفين وكشف مصير المفقودين، لكن لا يمكننا أن نفرض عليها ذلك، كما أنّ المشاكل المحلية تتطلب حلولاً محلية، ومن هنا أهمية تشكيل كل دولة فريق عمل متخصص للكشف عن مصير المفقودين، وإعطاء الأجوبة للأهالي، فالمسؤولية تقع أولاً وأخيراً على السلطات، وعلى سبيل المثال، درّبنا عناصر في جيوش المنطقة حول كيفية التصوير والتوثيق وأخذ المعلومات لتفادي وجود مفقودين جدد".

وتابعت: "بفضل التقنيات المتطوّرة أصبح من الممكن استطلاع أماكن ومساحات وصحارى، بالإضافة إلى الاعتماد على أجهزة التحسس عن بُعد، وساهم ذلك في تسليم رفات مفقودين من الحروب في العراق والكويت وإيران، وتمّ التعرف أخيراً إلى رفات شخص كويتي سُلّم لعائلته. كما جرى التعرّف إلى هياكل عظمية في مختبرات دول عدة بعد جلسات تدريب ضمّت خبراء في البصمة الوراثية قمنا بتنظيمها".

وحول زيادة أعداد المفقودين والمتوفين مع تنامي ظاهرة الهجرة السرية، خصوصاً عبر البحار، أكدت أنّ "العملية أصعب وأكثر تعقيداً، فهناك أفراد لا نعرف عائلاتهم، كما أن هذه الإشكالية تتطلب تعاوناً بين عدة دول، ويتطلّب البحر فرقاً متخصّصة لانتشال الجثث، وخبرات وتقنيات إضافية، كما أنّ طرق تحلّل الجثث في المياه مختلفة، والمياه المالحة تشوّه الجلد والعظام، لذلك ندرّب خفر السواحل في دول عدة على كيفية انتشال الجثث، وكيفية التعامل مع الجثامين، والتوثيق فور غرق المراكب، والاستجابة السريعة لتفادي زيادة أعداد المفقودين".
وتؤكد عبود على الالتزام الأخلاقي والإنساني للجنة الدولية للصليب الأحمر تجاه الكشف عن مصير آخر مفقود، وتحديد هوية كل الجثامين. مضيفة: "ستبقى القضية مفتوحة، فهي إشكالية  متوارثة، ويجب أن يندمل الجرح، فالعائلات بحاجة لأجوبة، ونصادف العديد من الأحفاد الذين يملأون الاستمارة، وهم يردّدون أن جدّاتهم سردن لهم الحكاية. المأساة متجذرة، ولا يملك فيها الأهالي رفاهية اليأس، فالأمل موجود وإن كان مؤجلاً، وهو عنصر الضغط الوحيد لاستمرار القضية".

المساهمون