يوم الأرض... صمود مناطق مهمّشة في الضفة الغربية

30 مارس 2021
هناك أرض لنا حوّلها المحتلّ إلى مستعمرة عتصيون (حازم بدر/ فرانس برس)
+ الخط -

 

لمناسبة يوم الأرض الذي يحييه الفلسطينيون في 30 مارس/آذار من كلّ عام منذ عام 1976، بعدما عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي، محاولة للإضاءة على صمود مناطق مجهولة ومهمّشة في الضفة الغربية.

عند طرف الضفة الغربية الجنوبي، حيث توجد محافظتَا الخليل وبيت لحم اللتان تئنّان تحت وطأة التوحّش الاستيطاني ومصادرة الأراضي، ثمّة مناطق لا يعرفها كثيرون، وقد يستغرب عدد من الفلسطينيين عند السماع بها للمرة الأولى. وعلى الرغم من اشتداد تنكيل الاحتلال الإسرائيلي بسكان هذه المناطق المهمّشة والتضييق عليهم من قبل المستوطنين، إلا أنّهم متشبّثون بأرضهم ومنازلهم بقوة، ويزداد عزمهم على البقاء وسط كلّ المصاعب التي يخلقها الاحتلال.

تُعَدّ منطقة مسافر يطا، في جنوب الخليل، أبرز المناطق التي يركّز الاحتلال ومستوطنوه جهودهم للاستيلاء عليها وطرد سكانها، وهذا ما لم يحصل منذ احتلال الضفة الغربية في عام 1967. وفي المسافر التي يصفها سكانها بالمهمشة، والتي تمتد على مساحة 95 ألف دونم وينازع الاحتلال سكانها على 35 ألفاً يعيشون عليها اليوم، فإنّ عين هذا الاحتلال على أكثر قراها وخربها تهميشاً، وهي قرية أو خربة لصيفر غير المعروفة، لكنّها قد تكون أكثر قرى مسافر يطا تعرّضاً للتنكيل وسياسة التهجير من دون مبالغة.

تقع قرية لصيفر في الجهة الغربية لمنطقة مسافر يطا التي تضم 35 تجمعاً فلاحياً وبدوياً، عزلها الاحتلال، تطبيقاً لـ"سياسة الجدار العازل" عن قرى المسافر الأخرى، وعن مدينة يطا القريبة في عام 2008، بسياج محكم يقدّر طوله بنحو ثلاثة كيلومترات، ويخنق سكان القرية الصغيرة البالغ عددهم 100 فرد تقريباً، علماً أنّ جميعهم من عائلة واحدة هي عائلة أبو قبيطة. وعند مدخلها، أقام الاحتلال حاجزاً يصفه السكان بالبغيض. وإن تخلّصت لصيفر من الجدار، فإنّ مستوطنات وبؤرا استيطانية عدّة تحاصر أرضها من كلّ الاتجاهات. فمن الشمال نجد الحاجز ومستوطنة "بيت يتير" التي تلتف على القرية حتى جهتَي الجنوب والغرب، ومن جهة الشرق تجثم على أرضها مستوطنتَا "خافات طاليا" و"متسافي يائير".

الصورة
طفل فلسطيني في لصيفر - المسافر في الضفة الغربية (عثمان أبو قبيطة)
يرعى خرافه بالقرب من الشريط الشائك في لصيفر (عثمان أبو قبيطة)

عثمان أبو قبيطة من سكان هذه القرية، يخبر "العربي الجديد" وإن رغب في عدم الكلام: "والله لا أعرف ماذا أقول، خصوصاً عن الحاجز المقام عند مدخل لصيفر. فالجنود المتمركزون هناك ينكّلون، عبر إجراءات التفتيش الصارمة والمبالغ فيها، بأيّ فرد من القرية مهما بلغ عمره". يضيف: "إذا صادف مروري بالحاجز مع أطفالي الأربعة وكانوا نياماً في المركبة، فإنّ الجنود يوقظونهم أو يجبرونني على إيقاظهم من أجل المشي صوب غرفة التفتيش. كذلك يجبرونني على إنزال عجلة المركبة الاحتياطية لتفحّصها، ولا يسمحون ببقاء أيّ شيء في المركبة عند التفتيش. بعد ذلك، يأخذون المركبة إلى غرفة أسفلها حفرة عميقة، فيتفحصونها ويحتجزونها ما بين نصف ساعة وأربعين دقيقة".

من جهة أخرى، فإنّ النساء اللواتي يلدنَ في كلّ أنحاء العالم، يتلقيّنَ قسطاً من الراحة وتُراعى ظروف ولادتهنّ. لكنّ روان أبو قبيطة (28 عاماً) زوجة عثمان أبو قبيطة، تعرّضت إلى تنكيل من قبل الجنود عند الحاجز هي ومولودها، على الرغم من أنّ ساعات فقط انقضت منذ ولادتها. تقول روان لـ"العربي الجديد" إنّه "قبل شهر وضعت ابني الأصغر بهاء. وبحسب العادة، يُمنع على المرأة ووليدها التعرّض إلى أيّ تيار هواء بارد. لكنّني في خلال عودتي من المستشفى إلى منزلي في لصيفر، أوقف جنود الاحتلال المركبة ولم يراعوا ظروفي، لا بل أجبروني على النزول منها. وكوني لا أستطيع الحركة بسهولة بسبب الوضع، ساعدني زوجي عثمان حتى وصلت إلى غرفة التفتيش".

ولم يكتفِ جنود الاحتلال بإجبار الأمّ على مغادرة المركبة وسط المطر والبرد، بل أجبروها على العودة مرة أخرى لإحضار مولودها لتفحّصه هو الآخر في غرفة التفتيش. وتشير روان باستياء إلى أنّ حلقها ما زال يؤلمها وما زالت غير قادرة على الكلام بوضوح، بالإضافة إلى آلام في الأطراف والظهر، مضيفة أنّ "طفلي ما زال مريضاً بسبب إنزالنا من المركبة والتنكيل بنا على الحاجز. هو يعاني ضيقاً في التنفس وجفافاً في الصدر ويتقبّل الرضاعة بصعوبة".

ويعيش السكان بصعوبة في لصيفر، فالاحتلال حوّلها إلى سجن حقيقي، في حين يواصل مستوطنوه الاعتداء عليهم في أثناء الرعي أو الزراعة. ولا قدرة للأهالي على طلب مساعدة سكان القرى الأخرى، لأنّ كلّ من حولهم مستوطنون يرغبون في اقتلاعهم من أرضهم. ومن المحزن أنّ لصيفر كانت تُسمّى قديماً المشاهد، لأنّ أراضيها العالية تطل على البحر الميت والأراضي الأردنية وجنوب فلسطين، حيث النقب الصحراوي ومناطق شمالي الخليل.

وقبل بناء جدار الفصل العنصري، كان الأهالي يستمتعون بالطبيعة الخلابة في القرية ومطلاتها المرتفعة (925 متراً فوق مستوى سطح البحر) خصوصاً في فصل الربيع، ويمارسون الرعي بحرية لمسافات بعيدة. لكنّ الاحتلال صادر نحو 300 دونم من أراضيها بهدف إنشاء محميات إسرائيلية، بحسب ما يقول أبو قبيطة، وحصر أهالي القرية الذين يملكون تلك المحميات. ويشير إلى أنّه "لأهالي لصيفر كامل الحرية في مغادرة قريتهم والعيش في مدينة يطا، لكنّهم يرفضون ذلك، على الرغم من العروض التي يقدّمها الاحتلال ومستوطنوه لهم، والتي تشمل مبالغ مالية في مقابل ترك لصيفر". ويؤكد أبو قبيطة "نحن أصحاب حق ولا أستطيع مغادرة أرضي على الرغم من العروض المالية والإغراءات. لا أستطيع المساومة على حقنا في البقاء، وذلك بصفتي قائماً بأعمال القرية. فأنا استلمت بعد والدي معركة الثبات في الأرض، مع العلم أنّ منازل القرية كلها، والتي تختلف ما بين خيام وبيوت صفيح وكهوف، تلقت إخطارات ومهددة بالهدم في أيّ وقت. ونحن نخوض عبر محامين ومؤسسات حقوقية معركة قضائية مع الاحتلال، وإن شاء الله سوف نكسبها". ويشدّد أبو قبيطة: "هذه أرضي... هنا ولدت".

الصورة
أنقاض منزل في بيت سكاريا في الضفة الغربية (عامر عودة)
صورة تذكاريّة على أنقاض منزلهما في بيت سكاريا (عامر عودة)

وسط التجمّع الاستيطاني الضخم "عتصيون" المقام إلى جنوب بيت لحم، بالقرب من الجهة الفاصلة بين محافظتَي بيت لحم والخليل، يناضل 650 فلسطينياً من سكان قرية بيت سكاريا، أو خربة الشيخ زكريا، من أجل البقاء في أرضهم. وفي الوقت الذي تتغوّل فيه مستوطنة "عتصيون" وتضخّ حكومة الاحتلال ملايين الدولارات من أجل إنعاش اليمين المتطرف فيها وإنشاء مزيد من الوحدات الاستيطانية، يُحارب المواطن عامر عودة من أجل بناء بيت سوف يهدمه الاحتلال، وربّما يحصل ذلك قبل مواصلة قراءة هذه الجملة. ورداً على سؤال لـ"العربي الجديد" حول ما يُمنَع على سكان بيت سكاريا القيام به، يجيب عودة غاضباً: "ما المسموح أصلاً لنا!". يُذكر أنّ الاحتلال كان قد هدم منزل عودة في عام 2007، أمّا هو فأصرّ على إعادة بنائه قبل أن يهدمه الاحتلال من جديد وبكلّ بساطة في عام 2012. لكنّ عودة أصرّ على تكرار البناء بعد أربعة شهور فقط، ولم يأبه لتلقّيه إخطاراً بهدم منزله ستّ مرّات، على الرغم من أنّ ذلك يزيد من صعوبة العيش عليه وعلى زوجته وأولادهما الأربعة.

ويمنع الاحتلال سكان قرية بيت سكاريا الصغيرة، منذ احتلالها في عام 1967، من البناء أو التوسع العمراني، بحسب عودة الذي يوضح أنّ "هذه الإجراءات أجبرت جزءاً كبيراً من السكان على تركها والاستقرار في قرى مجاورة من قبيل بيت فجار وإرطاس والخضر، ليصير عددهم في خارج قريتهم نحو خمسة آلاف نسمة". يضيف أنّ "من بقي منهم في القرية ينتمي إلى عائلات عودة وأسعد وصوّي وأبو شاهين والصرّاف، مع العلم أنّ الاحتلال شتت شمل عائلات أخرى وصادر كلّ أراضيها منذ الاحتلال في أواخر ستينيات القرن الماضي، وأبرزها عائلة إسماعيل. والذين بقوا من الأهالي يعيشون في 60 منزلاً، كلها مخطرة بالهدم". ويتابع عودة أنّ "صمود أهالي بيت سكاريا هو بمعرفتهم المسبقة بمصير المنازل التي يشيدونها، وهو الهدم، وعلى الرغم من ذلك يواصلون البناء ويصرون على البقاء".

وتتميّز قرية بيت إسكاريا بطبيعة خلابة ارتبطت بجمال منطقة كفار عاصيون قبل الاحتلال، وما زالت تُعرف بجمال أحراشها وأراضيها. ويمارس من تبقّى من الأهالي الزراعة، وتُعَدّ اللوزيات من قبيل الخوخ والمشمش بالإضافة إلى الفصولياء والقرنبيط والفقوس والعنب أبرز الزراعات. لكنّ مستوطني "عتصيون" وبؤرها الاستيطانية، خصوصاً "الحبيلة" و"آلون شافوت" و"هوستوريم"، لا يتركونها تكمل دورة نموّها. ويخبر عودة أنّ "هؤلاء المستوطنين ينتظرون حتى تثمر الأشجار أو حتى تصل إلى موسمها مثل دوالي العنب، لكي يقضوا عليها أو يقطعوها. كأنّهم بذلك يخططون لذلك بعناية، فيتركون المزارع يهتمّ بها لسنوات وعند اقتراب موعد انتفاعه منها يقضون عليها". يضيف عودة بمرارة أنّ "سكان قرية بيت سكاريا يحاولون تسويق ما ينجو من منتجاتهم الزراعية في سوق مدينة بيت لحم على بسطات، لكنّ إجراءات البلدية وضعف الإقبال على الشراء يحول دون نجاهم في ذلك، وهو ما يُجبرهم على رمي المنتجات بعد تلفها أحياناً".

تجدر الإشارة إلى أنّ بعد أيام يبدأ موسم الحراثة في فلسطين، ويتخوف سكان بيت سكاريا من اعتداءات المستوطنين المتوقّعة وتنكيل جنود الاحتلال وحراس المستوطنات بهم، لدرجة مطالبة الأهالي بإنهاء الحراثة بين حين وآخر كما في كلّ موسم، بالإضافة إلى تعرّض المزارعين إلى الاعتداء بالضرب من قبل المستوطنين والجنود وتدمير ممتلكاتهم ومركباتهم. ويشدّد عودة على أنّ "سكان بيت سكاريا يحاربون محاولات اجتثاثهم من أرضهم بزراعة كلّ سنتيمتر فيها. فالاحتلال صادر 7500 دونم من أراضي القرية منذ احتلالها، وأبقى لنا نحو 1500 دونم نزرعها بمعظمها، على الرغم من معرفتنا بأنّها قد تُقتلع أو تُدمّر أو نُحرم من ثمارها أو ربما تتلف الثمار المتبقية من دون تصريفها. لكنّنا نستثمر أيّ مساحة ممكنة من أرضنا لحمايتها من الاحتلال، بما فيها الأراضي المحيطة بمنازلنا المسقوفة بالصفيح".