"لستُ أنا. كرهتُ أن أرى نفسي في مكان واحد طوال اليوم، وفي الثياب نفسها. قد يمضي أسبوع من دون أن أخلع البيجاما، إلى درجة أنني اشتريت أخرى جديدة، علّني أشعر بالتغيير". ويحدثُ أنّ يوميات نادين، كأمّ تعمل من المنزل منذ أكثر من عام في ظلّ كورونا، تبدو مشابهة لكثيرات. رتابةٌ وأثاثٌ ملّته العين، وربّما كرهته. يومياً، تشعر برغبة في تبديل بعض التفاصيل أو إدخال عنصر المفاجأة على حياتها، إلا أن شيئاً لا يتغيّر. "أُسوّي شعري أحياناً بعدما تكون رطوبة الليل قد جعلته أشعث. أنظر إلى نفسي في المرآة، فأراني كما أنا. امرأة باتت جزءاً من ذلك الروتين السخيف الذي فرضه علينا كورونا. وهذا صعب".
طفلُها وجد والدته في البيت، عاجزة عن تقسيم الوقت، أو حتى تناول وجبة الغداء معه. عرف أن كورونا هو السبب، لكن المنزل لا يعني عملاً طوال الوقت. تقول إن "الضغط الذي نعيشه كبير، ولم يسبق لنا أن عشنا شيئاً مماثلاً. كأمّ، لطالما رغبتُ بأن أعمل من المنزل لتدبّر شؤون ابني من دون الحاجة إلى البحث طوال الوقت عن شخص قادر على مجالسته". لكن تبيّن لها أن الأمر ليس سهلاً تماماً، "نحن بشر ونحتاج إلى التواصل مع الآخرين وفي مواقع مختلفة".
تستقبل نادين الأصدقاء بين الحين والآخر، وتحديداً في الفترات التي تكون فيها أقل خوفاً من احتمال الإصابة، أي حين ينخفض عدد الإصابات، مع الالتزام بإجراءات الوقاية وإن من دون مبالغة. ما زالت تُعانق والدتها وصديقين فقط. فجأة، يغمرها شعور بالوحدة، وتشعر بأنها في حاجة إلى عناق صديق/ة، ولو كان في ذلك قليل من المخاطرة.
ليست من الذين يضعون طاولة عند المدخل وعليها مجموعة من المعقمات ذات العلامات التجارية المختلفة. "السبيرتو" موجود في مكان ما في غرفة الجلوس، في حال احتاج إليه أحدهم. لكن معظم الذين يأتون إلى منزلها يغسلون أيديهم. "وفي أحيان كثيرة، أخجل أن أطلب ذلك، وإن كان الأمر ضرورياً".
ويتحدّث كثيرون عن شعور باليأس بات جزءاً منهم، وكأنّهم ولدوا هكذا، وحتى مع إعادة فتح البلاد مع بعض الإجراءات الاحترازية. فالأمل بالسيطرة على الوباء بات أقل بالمقارنة مع فترة الحجر الصحي الأولى، وإن توفّرت اللقاحات.
كان عاصم يفكّر بالهجرة إلى أيّ بلد أوروبي لمتابعة الدراسات العليا، إلا أن تفشّي الوباء حرمه من تحقيق ذلك الحلم، هو الذي يأمل بالفرار من لبنان. ولأنّ فترة الوباء لا يبدو أنّها ستنتهي قريباً، قد يُلغي هذا الحلم. بالنسبة إليه، لم يتغيّر شيء خلال فترة الحجر غير اضطراره إلى العمل من المنزل. يقول: "أنا يائس منذ وقت طويل لأسباب لا علاقة لها بالوباء أو الأزمة الاقتصادية. وحالياً، بات الناس من حولي يائسين أيضاً بسبب الوباء وعوامل أخرى. ويبقى أنه على كل شخص التكيف مع أي وضع، سواء كان أزمة معيشية أو وباء أو حتى خسارات شخصية".
ما زال عاصم يزور والدته ويلتقي مع أشقائه في منزلها، من دون أن يضع أحد منهم الكمامة، وإن كان احتمال الإصابة بالعدوى وارداً، إلا أنه يصعب الانقطاع عن الجميع. هو ليس اجتماعياً، كما يقول، لذلك لم يشعر بأنه خسر هذا الجانب في حياته مع تفشي الوباء.
من جهته، لم يصل حسان إلى مرحلة اليأس بعد، إلّا أنّه يشعر بالإحباط من فترة إلى أخرى. وهي الأيام الوحيدة التي لا يجد فيها حاجة للبحث عن أسباب هذا الشعور. يومياً، يهاتف والدته أثناء ذهابه إلى العمل، لتطلعه على أخبار العائلة: "زوج خالتك لم يحتج إلى الأوكسيجين الليلة الماضية. خالتك تتماثل إلى الشفاء". ثم تطلعه على بقية أخبار العائلة وتسأله أن يأتي إليها ليأخذ حصته من طبخة اليوم، فهو ما زال عريساً جديداً. هكذا يبدأ حسان نهاره. يقيس معدلات الوباء لدى أفراد أسرته المصابين، وبات أكثر قلقاً بعد وفاة اثنين من أفراد عائلته. بالنسبة إليه، "العمر ليس مهماً هنا، طالما أن النتيجة هي الموت بسبب الفيروس". لذلك، بدا حريصاً على النأي بنفسه عن الناس تماماً. في العمل، يضع كمامتين متخذاً أقصى إجراءات الحذر خوفاً على أهله بالدرجة الأولى. فابن خالته أصيب بالفيروس وتسبب بالعدوى لجميع أفراد عائلته، فكانت النتيجة أن توفيت خالته.
يوميات حسان عادية، مثل كل اليوميات، "عمل وبيت. ربّما لكان الوضع أكثر صعوبة لو لم أكن أذهب إلى العمل". حاله حال كثيرين، اكتسب كيلوغرامات إضافية، إلا أنه غير قادر على الذهاب إلى النادي الرياضي في الوقت الحالي بسبب الخوف.
وعلى الرغم من مرور 8 أشهر على زواجه، إلا أنه لم يشعر بأنه تزوج بعد. حفل عرسه ضم 19 شخصاً فقط بسبب إجراءات الوقاية، وكان هذا إيجابياً بسبب عدم قدرته على دعوة الجميع، شرط ألّا يطول. أمل بأن يعود إلى حياته الطبيعية بسرعة، إلا أن ذلك لم يتحقق، وها هو عاجز عن استقبال المهنئين بعد كل هذا الوقت.
بعد مرور أكثر من 15 عاماً على زواجها وعام ونيف على تفشي كورونا، أبلغت سارة زوجها برغبتها بالانفصال. كلاهما يُدركان أن قرارها هو مجرّد ردة فعل نتيجة لكل الضغوط التي تعيشها، بل يعيشانها. في الحجر الأوّل، كانت أكثر إيجابية. تُعد الرقائق والحلويات لطفليها، ويخرج جميع أفراد العائلة للمشي على مقربة من البيت يومياً. وبسبب الحجر ومنع التجول، صارت ابنتها قادرة على قيادة دراجتها الهوائية في الأحياء الضيقة قرب البيت، إلا أن هذا لم يستمرّ. اليوم، قليلاً ما تغادر سريرها. تنام وتعمل في المكان نفسه، وهي ليست معتادة على البقاء في البيجاما، "أفتقد الاعتناء بنفسي وارتداء ثوب من أثوابي التي أحب، ووضع القليل من الكحل. كل هذا لم يعد موجوداً اليوم. لا أتطلع إلى المستقبل. أمضي يومي جالسة أمام الحاسوب، أعدّ وجبات الطعام لطفليّ، ولست قادرة على اللعب معهما رغم أنهما لا يعيشان طفولتهما، وهما في أمس الحاجة للعب".
كذلك، تخشى استقدام عاملة تنظيفات. وفي حال فعلت، تضع الكمامة وتطلب من العاملة وضعها أيضاً. من جهة أخرى، تلفت إلى أن وجودها وطفليها في البيت يربك العاملة، إذ لا تستطيع استخدام المكنسة الكهربائية لأن ولديها يدرسان "أونلاين". تقول: "نعيش حالة من اليأس. ففي لبنان، لا تنحصر الأزمة بكورونا. لا نعيش يأساً فقط، بل نعيش حالة من الانهيار".
تطلب من ضيوفها، أقله المقربين، خلع أحذيتهم عند الباب، وتتوقع منهم أن يغسلوا أيديهم، وإن كان لا علاقة بين خلع الحذاء وكورونا.