الساعة الرابعة صباحاً في مدينة حمد في قطاع غزة، كانت أصوات القذائف والطائرات قوية جداً، وكان الشباب يخرجون على شكل مجموعات من خمسة أشخاص بشكل تدريجي، خوفاً من طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، وحتى لا يتم استهدافهم، إذ إن طائرات الاستطلاع تراقب الغزيين منذ بداية العدوان على القطاع، وتكاد لا تغيب عن سماء غزة. وعلى الرغم من الخوف، فإن الغزيين مجبرون على التحرك للحصول على المياه والغذاء.
تبدأ رحلة البحث عن الطعام من خلال حجز دور أمام المخابز القليلة العاملة في قطاع غزة، علماً أن التواصل بات صعباً عبر الهواتف المحمولة بسبب ضعف شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى صعوبة شحنها. وتتراوح ساعات الانتظار أمام الأفران ما بين 4 و7 ساعات يومياً كما يؤكد كثيرون داخل أحد المخابز وسط منطقة البلد في خانيونس.
احتاج أحمد فرحان (39 عاماً) أكثر من 6 ساعات للحصول على ثلاث ربطات من الخبز له ولشقيقيه وعائلاتهما بعدما نزحوا من شمال القطاع إلى مدينة خانيونس. وفي كل ربطة 40 رغيفاً صغيراً، مع الإشارة إلى أن وزنه أقل من الرغيف الذي كان يعد قبل العدوان بسبب قلة الدقيق المتوفر لدى المخابز، بالإضافة إلى قلة المخابز العاملة، وذلك بعد استهداف حوالى 30 مخبزاً داخل قطاع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي.
ولا تتوقف المعاناة عند هذا الحد. يقيم فرحان برفقة أسرته في إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) الموجودة على حدود المخيم الغربي من خانيونس. يتقاسم المهام مع أبناء عمه الذين نزحوا معه بهدف تأمين المياه، ويتطلب الأمر ما بين 4 إلى 6 ساعات يومياً، علماً أن المياه غير نظيفة. كما يتطلب الوصول إلى محطة المياه السير على الأقدام حوالى كيلومترين.
يقول فرحان لـ "العربي الجديد": "قبل العدوان، كنت أعمل من 8 إلى 10 ساعات يومياً في سوق بلدة جباليا وسوق مخيم جباليا. لدي غرفة على السطح في منزل والدي لأعيش فيها لاحقاً مع خطيبتي. لكن في الوقت الحالي، كل شيء تغير. خطيبتي نزحت إلى مكان بعيد عني. وعندما اتصلت بها قبل يومين، أخبرتها أن صراعي اليوم ليس كما في السابق. هو صراع للبقاء على قيد الحياة".
نزح فرحان برفقة 40 فرداً هم والده وأعمامه وشقيقاته المتزوجات وبعض جيرانهم، ويتولى 10 منهم إحضار المياه والطعام يومياً. يضيف: "بدلاً من قضاء الساعات في العمل للحصول على المياه والغذاء، ننتظر في المخبز عدة ساعات للحصول على الخبز. وفي أحيان كثيرة، نبحث عن باعة الخضار علنا نؤمن القليل منها. وبالنسبة للمياه، نتنقل بين المحطات وننتظر أيضاً ساعات طويلة".
عادت شبكة الإنترنت بعدما انقطعت عن كامل قطاع غزة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لكن بشكل أسوأ مما كانت عليه. لذلك، يعتمد كثيرون على الإبلاغ الوجاهي، ونقل أخبار المعارك أو الطلبات شفهياً، كما يقول زيد صافي (24 عاماً). يومياً، يحاول الخروج في وقتٍ مبكر برفقة أبناء عمه النازحين من مخيم جباليا وشمال قطاع غزة لتأمين الطعام من الأسواق وكذلك الماء والخبز، وينقسمون لتأمين الاحتياجات ثم يحددون نقطة التقاء أمام مخبز بالقرب من مخيم خانيونس بسبب فقدان القدرة على التواصل عبر الهاتف الخلوي.
يحاول صافي تجاوز الأنقاض وتفادي السقوط في بعض الشوارع المدمرة نتيجة القصف العنيف والمتواصل. خلال تجواله، يلتقي بأصدقاء الدراسة الذين كانوا معه في مخيم جباليا قبل أن ينزحوا جميعاً إلى خانيونس، وقد مرت سنوات من دون أن يروا بعضهم البعض. أثناء وقوفهم في الطوابير، يتبادلون الأحاديث والمعاناة. ولدى سماعهم أصوات القصف، يحاولون سلك الشوارع البعيدة نسبياً، علماً أن الاحتلال يستهدفهم في المناطق التي سماها آمنة. ويشير إلى أن ابن عمه بلال (15 عاماً) أصيب عندما كان يحضر المياه، واستشهد اثنان من الذين كانوا معه من جراء استهدافهم وسط مدينة خانيونس.
يقول صافي لـ "العربي الجديد": "أحياناً، وبسبب شدة الألم والمعاناة والحسرة، عندما يخرج أحدهم حاملاً ربطة خبز، يرفعها وكأنه مُنِح للتو جائزة كبيرة، ونهتف له. نفعل ذلك على سبيل الدعابة، فلا وقت للحزن والاستسلام. هذا ما نعيشه الآن. ابن عمي أصيب لكننا لا نستطيع أن نحزن عليه ونواسيه. نذهب لنؤمن حاجة الأطفال والنساء من مشرب ومأكل. في بعض الأحيان، عندما أحصل على المياه، أحمل زجاجة إضافية حتى أستحم بها عند العودة، وأشعر بالانتعاش ولو قليلاً".
خلال رحلة الحصول على المياه والطعام، يلتقي البعض بجيرانه الذين نزحوا من مناطق مدينة غزة وشمال القطاع صدفة. وقد يلتقون أيضاً في مراكز الإيواء والأسواق على مقربة من هذه المراكز ومحطات المياه والمخابز. يخبرون بعضهم البعض عن الأماكن التي دمرت بعد نزوحهم، ومن استشهد من المنطقة وغيرها من التفاصيل.
زكي أبو محسن (51 عاماً) نزح من شمال القطاع بعد تهديد منطقته بالقصف، مع أبناء وأحفاد وأطفال ورُضع. أصيب بصدمة عندما شاهد أحد الفيديوهات يبين دمار منزله بالكامل، علماً أنه شيد آخر شقة لابنه الذي يدرس في الجزائر نهاية العام الماضي، حتى يسكن فيها بعد تخرجه من كلية الطب في الجزائر مع زوجته.
يقول أبو محسن لـ "العربي الجديد": "من دوري الاجتماعي وكوني جدا، أحرص على أن أحضر برفقة أبنائي الخبز والماء والخضار لجميع من نزح من منطقتنا إلى المدرسة التي نقيم فيها. علمت باستشهاد حوالى 30 شخصاً من عائلتي. نريد البقاء أحياء ولن نخسر فلسطين".
وتوقفت جميع محطات تزويد مياه الشرب في قطاع غزة عن العمل، بعدما خرجت محطة تحلية المياه عن الخدمة نتيجة استمرار عدوان وجرائم الاحتلال الإسرائيلي كما أعلنت سلطة المياه الفلسطينية. في هذا الإطار، افتتحت بعض المحطات التي زودت بالقليل من الوقود من منظمات دولية في بعض المناطق لتأمين احتياجات الناس. وبحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي، فإن ما تم توثيقه من قصف الاحتلال لأكثر من 15 تجمعاً للمواطنين داخل الأسواق وأمام المخابز ومراكز الإيواء والساحات التي يوجد فيها الغزيون لتأمين احتياجاتهم أثناء العدوان، أوقع عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وقد قصفت 10 مخابز على الأقل بمناطق مختلفة في قطاع غزة.
ويشير المكتب الإعلامي الحكومي إلى تعمّد قصف محيط المخابز خلال اصطفاف عشرات المواطنين على أبوابها، موضحاً أن أكثر من 40 مخبزاً وأكثر من 20 محطة مياه خرجت عن الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي ونقص المعدات ولوازم الكهرباء فيها، الأمر الذي يفاقم الأزمة بين المواطنين. كما يتحدث أن الأونروا زودت عدداً من المخابز بالدقيق من مخازنها، وتباع الربطة بوزن ثلاثة كيلوغرامات بدولار واحد.
وزودت المخابز ببعض الأساسيات داخل مناطق وجود النازحين، باستثناء مدينة غزة وشمال القطاع، منها ثلاثة مخابز في مدينة ومخيم رفح، وكان النصيب الأكبر في مدينة خان يونس بسبب كثرة النازحين فيها. وتم دعم 9 مخابز تتركز في وسط المدينة وغربها ومناطق المخيم الكبير والغربي منه. أما في وسط القطاع، فحصل مخبز واحد على دعم من الأونروا.
وكانت الأونروا قد أعلنت أن الإمدادات في السوق تنفد، في حين أن المساعدات الإنسانية التي تصل إلى قطاع غزة على متن شاحنات من مصر غير كافية، في وقت يعيش فيه سكان القطاع صعوبات في الحصول على الخبز. وقال مدير شؤون الأونروا في قطاع غزة توماس وايت، إن "الناس تشعر بأنها بمفردها، معزولة عن عائلاتها داخل غزة وبقية العالم". وأوضح أن "احتياجات المجتمعات هائلة، حتى لو كانت فقط من أجل البقاء على قيد الحياة، في حين أن المساعدات التي نتلقاها هزيلة وغير متسقة". ودعا إلى تدفق منتظم وثابت للإمدادات الإنسانية إلى قطاع غزة للاستجابة للاحتياجات خصوصاً مع تزايد التوترات والإحباطات.