للشهرة واستقطاب الضوء عوامل وأسباب، منها ذاتية تتعلّق بمن يسعى إلى الشهرة، وفي مقدمها إظهار المحاسن ونقاط التميّز والقوة، لأن ازدحام الباحثين عن الأضواء ينسي القيميين والقائمين على التصنيف أو يشغلهم على الأقل. وهكذا إذا لم تقل ولاية هكاري التركية التي تقع قرب الحدود مع العراق وإيران "أنا هنا"، ربما سيستمر السياح في الإدمان على زيارة إسطنبول وأنطاليا، وتستمر هواجس الاستهداف والتآمر وتعمّد الإقصاء بالنسبة إلى أكبر مدن البلاد المعزولة والمأهولة في الوقت ذاته.
ثمة أسباب موضوعية تاريخية وجغرافية وحتى سياسية لنسيان هكاري، ومن مهمات أصحاب القرار تذليلها، في وقت لا تملك الولاية القدرة على التصدي لها من أجل إدراج مناطقها على جداول الرحلات السياحية، ومنحها حقوقها في الحصول على خدمات ورعاية.
ويرى البعض أنه من الضروري أن تتركز الجهود الحكومية التركية على دمج المنطقة ضمن الهوية الوطنية، علماً أن هذه الجهود ركزت خلال العقد الأخير على زيادة ارتباط المنطقة السياحية بمحيطها، وقطع الحبال التي حاولت جرها إلى الخارج من خلال أوهام الانفصال والاستقلال التي استمرت حتى تسعينيات القرن العشرين.
واليوم، لا يكاد يخلو برنامج سياحي إلى مناطق جنوب وجنوب شرقي تركيا من زيارة هكاري، بعد تسويق مناطقها التي تحمل أسماءً جذابة وغريبة، مثل وادي الجنة وجهنم، وإطلاق حملات للتعريف بجغرافيا هذه المناطق التي تجذب عشاق الطبيعة إلى مشاهد عجائبية ذات معالم مكتملة، وتتمثل في البحيرات الجليدية التي تظلّ إلى وقت متأخر من الصيف، والشلالات والجبال التي تجذب هواة التسلق والمخاطر وحلبات ومضامير التزلج. ومع احتفاظها بكل هذه التناقضات تتميز هكاري بإمكان رؤية أربعة فصول في مناطقها في يوم واحد.
تقع ولاية هكاري شرقي منطقة الأناضول، وسط مجموعة من الجبال المغطاة بالثلوج قرب الحدود مع العراق وإيران، وتعتبر بين الأماكن الأكثر ارتفاعاً في تركيا، وتضم العديد من البحيرات الجليدية والمنحدرات والأنهار المتعرجة. وما يزيد سحر هكاري تاريخها القديم وثقافتها الغنية، إذ تعد من الأكثر سكاناً بين المدن التركية المعزولة، بـ290 ألف نسمة يعيشون ضمن مساحة 7.7 آلاف كيلومتر مربع.
يقول الباحث تورغاي توركار لـ"العربي الجديد": "يعود أصل تسمية هكاري إلى قبائل هكار الكردية التي تنتشر في مناطقها الخمس لم تنفصل عن ولاية وان إلا بعد تأسيس الجمهورية التركية".
ومرّت على ولاية هكاري، بحسب توركار، تبدلات جغرافية وديمغرافية كثيرة، لكن نسبة 90 في المائة من سكانها أكراد من قبائل دوسكي وإرتوشي وجيردي وهركي وجركي وبينانيش. وعُرفت، حتى القرن السادس عشر، بأنها إمارة ذات قرارات مستقلة، ثم اندمجت، مثل بدليس وأورفة وماردين وحتى ديار بكر، بالدولة التركية، إثر إنشاء المفتشيات العامة بموجب القانون 1164 الصادر عام 1927. ثم مرّت بتبدلات عدة عام 1952 بعد حلّ المفتشيات، وصولاً إلى عام 2002 حين عرفت بمنطقة الطوارئ قبل أن تشهد شبه استقرار مستمر حتى اليوم.
وحول الحضارات التي تعاقبت على الولاية الجبلية الزاخرة بالقلاع والأوابد، يوضح توركار أن "الآثار الموجودة تدل على وجود آثار للمغول والميديين والفرس والسلاجقة والعثمانيين، ما أدرج معظم آثارها ضمن مواقع التراث العالمي، بحسب تصنيف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو".
في المقابل، يرى جيزمي أورال، المتحدر من المنطقة والذي يقيم في منطقة درامان بإسطنبول، أنّ النزاعات المسلحة ساهمت في شكل كبير في إبعاد السياح عن مناطق هكاري، وبالتالي الترويج للأماكن الأثرية والطبيعية التي تضمها. وهو يصف منطقة هكاري بأنها "جنّات من أنواع خاصة، لأن ارتفاع الجبال وتفجير الينابيع والشلالات أعطت خصوصية لا يمكن رؤيتها في أماكن أخرى".
ويشير، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن الفترة الأخيرة التي شهدت استقراراً نسبياً أعادت الولاية إلى دائرة الضوء وسمحت بتهافت السياح مجدداً عليها، خصوصاً إلى مركز التزلج وشلالات أوره، أما الشهرة الكبرى فهي لوادي الجنة وجهنم، ربما بسبب اسمه الغريب.
وتتحدث مراجع تاريخية وسياحية عن معالم وآثار كبيرة في المنطقة، لكن ولاية هكاري تعتبر الأكثر جذباً لمحبي الطبيعة والمغامرة. ويستحوذ وادي الجنة وجهنم على الاهتمام الأكبر، بحسب مدير الشباب والرياضة في الولاية، أمين يلدريم، الذي يؤكد "زيادة إقبال محبي التسلق والمغامرة من داخل تركيا وخارجها على سفوح جبال جيلو التي تضم بين جوانبها وادي الجنة وجهنم، علماً أن زوار المنطقة يعيشون الفصول الأربعة في يوم واحد.
ويبعد الوادي 45 كيلومتراً من مركز مدينة هكاري، وتوجد على امتداده لوحات طبيعية فنيّة في غاية الجمال، حيث تغطي الثلوج بعض أقسامه والأزهار الملونة والنباتات الخضراء أقساماً أخرى.
إلى ذلك يوجد مركز هكاري للتزلج على مسافة 12 كيلومتراً من مركز مدينة هكاري، ويقع في منطقة مصيف ميرغا بوتان، ويرتفع 2700 متر فوق سطح البحر. وقد افتتحت منشآته عام 2014، بدعم من وكالة تنمية شرق الأناضول، ويستقبل آلاف السياح المحليين والأجانب سنوياً لممارسة رياضات شتوية مثل التزلج.
وتعتبر جبال "جيلو" في هكاري الثانية علواً في تركيا بارتفاع 4135 متراً، وتتميّز بتغطية الثلج لها على مدار السنة، لذا تشهد مغارات خاصة بالثلوج منذ 3500 سنة. وهي تجذب محبي تسلق الجبال، ويعتبرها أتراك بين أهم مراكز التسلق في العالم.
كذلك تضم هكاري بحيرة "سيد هان" التي تقع في مصيف بيرتشيلان عند سفوح الجبال، وتتشكل نتيجة تجمع مياه الينابيع والثلوج، وتتميز بمياهها النقية ولونها الأزرق الجميل. وأطلق هذا الاسم عليها نسبة إلى أحد أسياد القبائل الموجودة في هكاري "سيد هان".
وبين الأماكن المميزة أيضاً شلال أوره ووادي مرغان والجسر الحجري ومتحف هكاري للسجاد ومدرسة ميدان، لكن الأكثر إدهاشاً في المكان وربما أحد أهم أسراره، مداخن "بري باجالاري" التي تقع في قرية يافوزلار، والتي يقول توركار إنها "نسخة مصغرة عن موائد الجنيّات أو مداخن الشيطان الموجودة في كابادوكيا في ولاية نوشهير وسط تركيا. وهكذا يكتمل مشهد الرعب الذي يضم وادي جهنم وموائد الشيطان ومداخن الجنيات.