"أجّلت لمدة شهر العملية الجراحية التي كنت أنوي الخضوع لها في الكلى بسبب الازدحام الكبير في مستشفى بدمشق"، هذا ما يقوله محمد الناصر، أحد مرضى الفشل الكلوي بمدينة دمشق، لـ"العربي الجديد"، عن عمليته الجراحية التي تأجلت للمرة الثانية على التوالي بسبب عدم وجود أطباء تخدير في المستشفى.
يضيف: "الازدحام الشديد على العمليات، وقلة الأطباء المتخصصين في المستشفيات باتا يشكلان خطراً كبيراً على حياة المرضى. ومن كانت حالته خطرة جداً يبحث عن حل بديل قد يتمثل في الذهاب إلى مستشفيات في محافظات أخرى، مثل اللاذقية وطرطوس، وهذا حل مكلف بالنسبة إلى غالبية العائلات".
ويخبر مريض السرطان علي الحسن "العربي الجديد"، أن "الطبيب مؤنس أبو منصور الذي يعد أحد أهم أطباء أمراض السرطان في محافظة السويداء سافر إلى الإمارات حيث وقع عقداً طويل الأمد للعمل، ولم يبقَ في قسم السرطان بالمستشفى العام سوى طبيب واحد يتابع أكثر من 250 مريضاً. يضطر المرضى إلى الذهاب إلى مستشفى البيروني في دمشق، حيث تتابعهم جمعية خيرية تملك إمكانات مادية محدودة".
ويوضح مصدر طبي في دمشق لـ"العربي الجديد"، أن "النسبة الأكبر من الأطباء الذين هاجروا متخصصون في التخدير وأمراض الكلى والأسنان والأورام خاصة السرطان. معظم مستشفيات الدولة غير قادرة حالياً على استيعاب المرضى بسبب ندرة الأطباء المتخصصين، وتفاقم الوضع مع تفشي الكوليرا خلال الأسابيع الأخيرة". ويعتبر أن "هجرة الأطباء من مناطق سيطرة النظام أمر طبيعي واعتيادي، فهم يفعلون ذلك بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، أو للهرب من خدمة العلم الإلزامية التي يفرضها النظام. بعض عمليات الهجرة تحصل في الخفاء، وتشمل الهروب أولاً إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية، ومنها إلى دول أوروبية، أو ليبيا عبر تركيا".
بدوره، يقول الطبيب محمد الجاسم، الذي غادر سورية خلال العام الماضي، إن "هجرة الأطباء سببها عدم وجود بيئة عمل مناسبة وافتقاد الرادع الأمني الذي يمنع تعرضهم لانتهاكات في العمل، خاصة ضمن مناطق تشهد توترات أمنية، ومواقع تتمركز فيها مليشيات موالية للنظام السوري". يضيف: "لم أختر مواقع سيطرة المعارضة السورية كوجهة لي لأن وضعها لا يختلف عن باقي المناطق خصوصاً على الصعيد الأمني".
ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن "الطبيب يحظى باهتمام واحترام خارج سورية، كما يحصل على مردود مالي ضخم. معظم الأطباء الذين تركوا سورية توجهوا إلى دول مثل الصومال وليبيا، كما وصل عدد لا بأس به إلى العراق". وعن سبب اختيار الأطباء الدول الأفريقية، يشير إلى أن "الدول الأوروبية تشترط أن يجتاز الطبيب مراحل متقدمة من اختبارات اللغة، كما يطالب بعضهم بتعديل شهادتهم بعد إجراء فحص معياري، لذا تعتبر الدول الأفريقية وجهات مفضلة".
ويؤكد عضو في نقابة أطباء محافظة السويداء لـ "العربي الجديد" من دون أن يكشف عن اسمه لأسباب أمنية، أن "النقابة لم توثق عدد الأطباء الذين هاجروا إلى الخارج بسبب سفرهم من دون إبلاغها، علماً أن بعضهم غادروا عبر طرق تهريب غير شرعية. أكثر من 500 طبيب هاجروا من السويداء خلال عام 2020 إلى مناطق مختلفة أبرزها العراق ودول في الخليج وأخرى".
ويقول الطبيب خالد الضعيف الذي يقيم في ريف حلب الشمالي، لـ"العربي الجديد"، إن "وضع الأطباء في المستشفيات الحكومية التابعة للنظام السوري يزداد سوءاً يوماً بعد يوم لأسباب عدة أهمها إهمال النظام السوري الكوادر الطبية، وعدم تأمين المستلزمات اللازمة في مراكز العمل الصحية المختلفة، كما أن المستشفيات تلزم الأطباء العمل بدوامات طويلة ورواتب منخفضة، لذا لا يستطيع الأطباء العمل خارج المستشفيات، وتأمين مداخيل مناسبة للعيش".
وتكشف المصادر أن "الهجرة لا تقتصر على الأطباء، بل تشمل طلاب الطب والصيدلة أيضاً". يقول نور محمد، وهو أحد خريجي كلية الطب في جامعة دمشق لـ"العربي الجديد": "يصعب أن يدرس طالب الطب ويتعلم لمدة 10 أعوام من أجل الحصول على راتب شهري لا يتجاوز 150 ألف ليرة سورية (30 دولاراً). بمجرد حصولي على كشف العلامات سأغادر سورية وأتوجه للعمل في ليبيا، لأنه لا يمكن أن أبقى هنا فممارسة مهنة الطب في دمشق لا تؤمن حياة كريمة، خاصة أنه يفترض أن يخدم الخريج الدولة 10 أعوام براتب زهيد جداً، والبقاء عموماً في سورية، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها النظام، مصدر خطر كبير على أي طالب، لكونه ملزما تأدية خدمة العلم الإلزامية، أو دفع مبالغ مالية باهظة لضباط في الجيش من أجل تأجيل الخدمة لعام واحد. وقد يتكرر ذلك في ظل الإقامة تحت سلطة العسكر".
من جهته، يقول جمال العبدو، الطالب في كلية الصيدلة بجامعة حلب، والذي تخرج العام الماضي لـ "العربي الجديد": "قرار خروجي من مدينة حلب التي تقع تحت سيطرة النظام السوري، واختياري محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية كبديل للعيش والعمل جاء بعد تفكير استمر أكثر من 10 أشهر. واتخذت في النهاية قرار الدخول إلى إدلب".
يتابع: "لا يمكن أبداً لأي شاب ذي سن صغيرة أن يستمر في الإقامة بمدينة حلب حيث لا استقرار أمنيا، ويتحكم العسكر والمليشيات الموالية للجيش السوري بكل شيء، والأوضاع الاقتصادية سيئة جداً، وأنا لا أتوقع أن يتجاوز المردود الشهري لأي طالب متخرج حديثاً 100 دولار".
ويوضح أن عدد طلاب كلية الصيدلة يناهز 400، قرر أكثر من 30 في المائة منهم السفر إلى خارج سورية، وتوزع 20 في المائة منهم على مناطق شمالي شرقي سورية الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية ذات الغالبية الكردية، فيما توجه آخرون إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية بريف حلب الشمالي، ومحافظة إدلب. ومن بقي داخل حلب معظمهم فتيات لا يواجهن خطر إلزامهن تأدية الخدمة العسكرية". ويشير إلى أن "معظم الطلاب الخريجين، خاصة في اختصاصات الطب البشري، يختارون أوروبا وجهة للسفر بحجة إكمال تعليمهم خارج سورية، وهم يذهبون ولا يعودون أبداً".
ونقلت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام السوري في وقت سابق عن مسؤول لم تذكر اسمه لأسباب خاصة، قوله إن "نسبة التسرّب من خريجي اختصاصات الطب البشري زادت هذا العام عن الأعوام الماضية. ويتم تخريج أكثر من 1000 طالب وطالبة سنويا في جامعة دمشق، ويهاجر بين 30 و40 في المائة منهم إلى خارج البلاد".
وفي وقت سابق، أعلن نقيب أطباء ريف دمشق، خالد موسى، أنّ "ثمّة تخصصات طبية قد تواجه خطر الزوال في سورية إذا بقي الإقبال عليها ضعيفاً". وتابع، في حديث أدلى به إلى إذاعة "ميلودي إف إم"، إنّ "الاختصاصات التي تشهد الإقبال الأقل هي الطب الشرعي وجراحة الأوعية والكلى والتخدير"، موضحاً أنّ "النقابة قد تلجأ إلى استقطاب أطباء اختصاصيين من الخارج لتعويض النقص في المراكز".
وسبق أن كتبت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام السوري، أن "أكثر من 1100 طبيب وممرض استقالوا من وظائفهم في العاصمة دمشق واللاذقية والقنيطرة والسويداء".
وذكرت تقارير إعلامية نشرتها صحف ومواقع تابعة للنظام السوري أن "عدد الأطباء الذين هاجروا إلى خارج سورية بين عامي 2011 و2022 بلغ 50 ألف طبيب من أصل 70 ألفاً".
وتعيش المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري أزمات اقتصادية معيشية، إضافة إلى تردي الواقع الأمني، وسيطرة الجيش على مؤسسات الدولة الخدماتية".