نازحو نينوى... أسباب سياسية وطائفية تمنع عودة مئات آلاف العراقيين

23 نوفمبر 2022
لم ترجعا إلى الديار (زيد العبيدي/ فرانس برس) ​
+ الخط -

مع بدء العمليات العسكرية في العراق بين عامي 2014 و2017، إثر اجتياح مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" مناطق واسعة من شمال وغرب البلاد، نزح قرابة 7 ملايين عراقي من محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى ونينوى وناحية جرف الصخر شمالي بابل وكركوك وأطراف وضواحي بغداد. وبعد استعادة القوات العراقية السيطرة على المدن التي خضعت لسيطرة داعش، بدأ النازحون بالعودة إلى مناطقهم، لكن تلك العودة لم تكن باليسيرة.
واجه النازحون جملة من التحديات خلال العودة إلى مناطقهم الأصلية، كان أبرزها نفوذ المليشيات المسلحة وتحكمها بالقرار في تلك المناطق، والدمار الذي تعرضت له بيوتهم من جراء المعارك الضارية وقصف طيران التحالف الدولي، وانعدام الخدمات فيها بعد تعرض معظم البنى التحتية إلى الدمار.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 5 سنوات على انتهاء العمليات القتالية في العراق، وإعلان النصر على تنظيم داعش، عاد الجزء الأكبر من النازحين إلى مناطقهم، لكن مئات آلاف العائلات ما زالت نازحة سواء داخل المخيمات أو خارجها. وتشير بيانات وزارة الهجرة والمهجرين ولجنة الهجرة والمهجرين والمصالحة المجتمعية إلى أن النازحين من مناطق جرف الصخر شمالي بابل ومناطق في غربي الأنبار وقضاء المقدادية في ديالى ومناطق ناحية يثرب وعزيز بلد في محافظة صلاح الدين، منعوا من العودة من قبل فصائل مسلحة في قوات الحشد الشعبي ولدوافع ترتبط بمشاريع التغيير الديموغرافي الذي تقوده تلك المليشيات.
وفي محافظة نينوى، ما زال مئات الآلاف يعيشون خارج مناطقهم منذ بداية العمليات العسكرية. وتختلف أسباب عدم العودة في نينوى عن باقي المناطق العراقية بسبب التركيبة السكانية والسياسية المعقدة للمحافظة. ولا يوجد إحصاء رسمي حول عدد النازحين من نينوى. لكن بحسب معلومات حصلت عليها "العربي الجديد"، يقدر عدد النازحين المتواجدين داخل العراق وخارجه بنحو 600 ألف شخص من مختلف مكونات المحافظة (العرب السنة، المسيحيون، التركمان، الأيزيديون، العرب الشيعة، والكرد).
وأكدت حكومة محافظة نينوى المحلية أن عدد النازحين حالياً ممن لم يعودوا إلى ديارهم يقدر بنحو 600 ألف نازح، بحسب معاون المحافظ لشؤون النازحين والمنظمات علي عمر كبعو. ويقول لـ "العربي الجديد" إن "غالبية العائلات التي لم تعد هي من قضاء سنجار، ويقدر عددها بنحو 47 ألف عائلة"، مشيراً إلى أن "مشكلة نازحي سنجار تتطلب حلاً سياسياً لأن مشكلتهم بالأصل سياسية". ويوضح أن العديد من سكان القرى العربية في المناطق المتنازع عليها لم يسمح لهم بالعودة من قبل سلطات إقليم كردستان العراق، مبيناً أن إنهاء مشكلة تلك القرى يتوقف على قرار من الإقليم لضمان عودة النازحين العرب إلى قراهم.

نازحو القرى العربية
رفضت دائرة الهجرة والمهجرين في نينوى‎ الإدلاء بأي تصريح أو معلومات عن ملف النازحين الممنوعين من العودة، لكن مصدراً مسؤولاً في نينوى يكشف لـ "العربي الجديد" خريطة المناطق التي يمنع أهلها من العودة والجهات التي تمنعهم. ويقول إن "عدداً كبيراً من القرى العربية في منطقة الخازر شرق الموصل يمنع أهلها من العودة من قبل قوات البيشمركة لأغراض سياسية وأمنية"، موضحاً أن "البيشمركة تمنع أهالي قرى كثيرة كلها عربية أبرزها حسن شام وعلياوة وأش قلعة كبير وأش قلعة صغير وبحرة وتل أسود، وتقع جميعها في منطقة الخازر في قضاء الحمدانية بسهل نينوى"، مشيراً إلى أن "عدد النازحين من هذه القرى كبير وجميعهم من العشائر العربية".
كما أن قسماً من هؤلاء النازحين من هذه القرى يتواجد في مخيم حسن شام الذي يبعد عن قراهم مئات الأمتار فقط، ويمكنهم رؤية منازلهم ومزارعهم منذ سنوات لكنهم منعوا من العودة إليها. وفي مناطق غرب نينوى، تمنع قوات البيشمركة أيضاً أكثر من ألف عائلة من العودة إلى قراهم في ناحيتي زمار وربيعة التابعتين لقضاء تلعفر. وبحسب المصدر نفسه، فإن البيشمركة تمنع منذ سنوات عودة ما يقرب من 1200 عائلة من سكان قرية الشيخان العربية التابعة لناحية زمار، وقرى السعودية، المحمودية، جدرية، صفية، والقاهرة في ناحية ربيعة.
وتمثل المناطق التي ترفض قوات البيشمركة عودة السكان إليها مناطق حيوية لقربها من الحدود الفاصلة بين المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الاتحادية وقوات حرس إقليم كردستان. وفي وقت سابق، اتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" السلطات في إقليم كردستان بمنع الأسر العربية من العودة إلى منازلها في خمس قرى في ناحية ربيعة غرب محافظة دهوك، بعد 6 سنوات من استعادة المنطقة من داعش.

أيزيديون في أحد المخيمات (صافين حامد/ فرانس برس)
أيزيديون في أحد المخيمات (صافين حامد/ فرانس برس)

حسم الملف
يؤكد النائب وعضو لجنة الهجرة النيابية يوسف فرج السبعاوي أن مفاوضات تشكيل حكومة محمد شياع السوداني تضمنت الاتفاق على حسم ملف النازحين من المحافظات المحررة، من بينهم النازحين من القرى العربية في نينوى المحاذية لإقليم كردستان. ويقول لـ "العربي الجديد" إن "ورقة التفاوض والمنهاج الحكومي تضمنت إعادة النازحين إلى مناطق سكنهم خلال الحكومة الحالية".
ويشير السبعاوي إلى أن لجنة الهجرة البرلمانية تعمل بشكل جدي من أجل تنفيذ الاتفاق الخاص بإعادة النازحين وحسمه نهائياً. لكن عضو لجنة حقوق الإنسان في الدورة البرلمانية السابقة قصي عباس يشكك في إمكانية حل مشكلة نازحي القرى العربية مع إقليم كردستان. ويقول لـ "العربي الجديد" إنه "يأمل تطبيق ما جاء في البرنامج الحكومي الخاص بالنازحين، وخصوصاً أن رئيس الوزراء تعهد بغلق ملف النزوح خلال الحكومة الحالية". يضيف أن "لجنة برلمانية شكلت في الدورة السابقة لحل مشكلة القرى العربية في منطقة الخازر شرق الموصل لكنها أخفقت في التوصل لأي نتيجة بسبب رفض قوات حرس إقليم كردستان السماح لسكان القرى العربية بالعودة، وذلك بذريعة أن السكان بقوا في نينوى خلال فترة خضوعها لسيطرة داعش".
أما النازحون من المكون العربي المسيحي، فما من أرقام رسمية حول أعداد العائدين منهم وأعداد النازحين. لكن بحسب مسؤول كنائس الموصل للسريان الكاثوليك الأب رائد عادل، فإن ما يزيد على 60 في المائة من النازحين المسيحيين لم يعودوا إلى ديارهم في سهل نينوى أو داخل مدينة الموصل. ويعزو عادل في حديثه لـ "العربي الجديد" سبب عدم العودة إلى الأوضاع المعيشية والخدماتية والاقتصادية المتردية التي تشهدها محافظة نينوى بعد العمليات العسكرية. ويلفت إلى أن "الكثير من المسيحيين شأنهم شأن المسلمين يرفضون العودة، بسبب ضعف الخدمات ودمار البنى التحتية وقلة فرص العمل".
ويشير عادل إلى أن المسيحيين داخل مدينة الموصل أيضاً لم يعد منهم إلا العدد القليل، ولا يتجاوز عدد العائدين 60 إلى 70 عائلة داخل مركز الموصل.
ويقدر عدد المسيحيين في العراق حالياً بنحو 300 ألف مسيحي، مقارنة بمليون ونصف المليون مسيحي كانوا يعيشون في البلاد قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وإلى جنوب الموصل وتحديداً ناحيتي الشورة وحمام العليل والقيارة، تواصل ما يعرف بـ "الحشد العشائري"، وهي مليشيات مسلحة منبثقة عن عشائر من نفس تلك المناطق، منع عودة نحو ألف عائلة موزعة في تلك البلدات والقرى التابعة لها بذريعة انتماء أحد أبنائها لداعش.
وبحسب بيانات الهجرة، فإن العائلات التي تمنع العودة لأسباب تعرف بالعشائرية تتواجد حالياً في مخيم "الجدعة 5" وهو المخيم الوحيد في نينوى والذي يتبع لإدارة الهجرة في المحافظة.

في أحد المخيمات القريبة من الموصل (زيد العبيدي/ فرانس برس)
في أحد المخيمات القريبة من الموصل (زيد العبيدي/ فرانس برس)

أبعاد طائفية في تلعفر
في تلعفر (شمال غرب العراق وتتبع إدارياً محافظة نينوى)، تبرز الأسباب الطائفية في منع عودة النازحين إلى مناطقهم. ويقول أحد سكان القضاء النازح إلى مدينة الموصل إن "قضاء تلعفر يخضع حالياً لسيطرة الحشد الشعبي إضافة إلى سيطرة شكلية لقوات الجيش العراقي". يضيف وقد طلب عدم الكشف عن هويته خوفاً من الملاحقة الأمنية، أن "عناصر الحشد الشعبي يمنعون بصورة مباشرة وغير مباشرة عودة السكان (التركمان السنة) إلى مناطقهم"، مشيراً إلى أن المنع يأخذ صوراً مختلفة منها التهديد المباشر أو تقديم شكاوى وبلاغات لدى الأجهزة الأمنية تفيد بالانتماء إلى داعش، الأمر الذي يدفع الأهالي لتجنب العودة خوفاً من الاعتقالات التي تطاول أبناءهم.
ويقدر عدد النازحين التركمان من الطائفة السنية بنحو 100 ألف شخص، منهم من يقيم في إقليم كردستان ومنهم من نزح باتجاه مدينة الموصل، بينما يتواجد الكثير منهم في تركيا. كما أن مئات العائلات التركمانية الشيعية التي نزحت من تلعفر عقب سيطرة داعش على القضاء، ولجأت إلى المحافظات الجنوبية، ما تزال تقيم في تلك المحافظات وترفض العودة بسبب الواقع الخدماتي السيئ في نينوى.

النازحون في حال صعبة (صافين حامد/ فرانس برس)
النازحون في حال صعبة (صافين حامد/ فرانس برس)

مشكلة نازحي سنجار
وفي سنجار (غرب محافظة نينوى)، تظهر المشكلة أكثر تعقيداً بسبب الأبعاد السياسية والإدارية وسيطرة حزب العمال الكردستاني على القضاء وتدخل جهات دولية في مقدمتها إيران بإدارة الصراع في القضاء، ورد تركيا على أنشطة مسلحي حزب العمال الكردستاني.
ويقول النائب عن سنجار محما خليل لـ "العربي الجديد" إن "350 ألف نازح من القضاء لم يعودوا إلى ديارهم حتى الآن"، لافتاً إلى أن غالبية النازحين من القضاء هم من المكون الأيزيدي والعربي، لكن غالبيتهم من الأيزيديين، مشيراً إلى أن النازحين الأيزيديين الذين لم يغادروا العراق يقطنون في إقليم كردستان وأكثر من نصفهم في مخيمات بمحافظتي دهوك وأربيل.
يتابع أن "أبرز المشاكل التي تمنع عودة نازحي سنجار هو الصراع السياسي في القضاء وعدم تنفيذ اتفاق سنجار وعدم وجود إدارة محلية في القضاء، بالإضافة إلى سيطرة تنظيم العمال الكردستاني والفصائل المسلحة القريبة منه على الوضع الأمني، ودمار المنازل والبنى التحتية وضعف الخدمات وانعدام مشاريع الإعمار". ويشدد خليل على ضرورة تنفيذ اتفاق سنجار الذي تنص إحدى فقراته على إعادة النازحين إلى مناطقهم في القضاء، مؤكداً أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ألزم نفسه بتنفيذ ما جاء في برنامجه الحكومي وتضمن في فقراته تنفيذ اتفاق سنجار وحل مشكلة النازحين فيها.

نازحو الموصل
بعد سيطرة "داعش" على الموصل في 10 يونيو/ حزيران 2014، نزح نحو نصف مليون مواطن من المدينة باتجاه محافظتي دهوك وأربيل، وعاد جزء منهم إلى الموصل خوفاً من مصادرة داعش أملاكهم. لكن أكثر من نصفهم بقي في مدن الإقليم وما زال حتى اليوم، واستقر بعضهم خارج العراق، وآخرون في إقليم كردستان، وباتوا يرفضون العودة بسبب ضعف الخدمات في المدينة. وجميع هذه العائلات ليست ضمن إحصائيات وزارة الهجرة والمهجرين.
وتقدر أعداد هؤلاء النازحين بما بين 300 و400 ألف شخص، بحسب مجلس أسر وعائلات الموصل (مجلس اجتماعي غير رسمي). ولا يخفي بعض النازحين من الموصل إلى مدن كردستان خشيتهم من تسلط فصائل الحشد الشعبي على المدينة ونفوذها الكبير الاقتصادي والأمني والسياسي، كما يرى الأستاذ المتقاعد عدنان النعيمي. ويقول لـ "العربي الجديد" إن "نفوذ الفصائل المسلحة وسيطرتها على العديد من أوجه الحياة في الموصل يخلق هاجس خوف لدينا ويمنعنا من العودة، فضلاً عن الإجراءات الأمنية التي أعقبت عملية استعادة الموصل وإمكانية اعتماد وشاية المخبر السري التي تؤدي إلى اعتقال الأشخاص من دون أي أدلة".
وخلال عملية استعادة الموصل، سجلت دوائر الهجرة غالبية أهالي المدينة ضمن سجلات النزوح، واعتمدت القوات العراقية آلية تقوم على إخلاء سكان المنطقة التي تدخل إليها وتفرض عليها السيطرة ونقل العائلات إلى مخيمات جنوبي الموصل. وبعد استقرار الأوضاع فيها وتقدم القوات إلى مناطق أعمق داخل المدينة، سمح للسكان بالعودة على اعتبار أن الخطر أصبح بعيداً عنهم. إلا أن عودة آلاف العائلات تأخرت لسنوات بسبب الدمار الذي لحق بممتلكاتهم، لا سيما في الجانب الأيمن من الموصل وخصوصاً المنطقة القديمة. وما زال المئات منهم بعيدين عن مساكنهم الأصلية لكنهم يعيشون داخل مدينة الموصل بحسب غالبية العائلات التي تواصل "العربي الجديد" معها.

المساهمون