استمع إلى الملخص
- قصص معاناة النازحين: يعيش النازحون في ظروف صعبة على الشاطئ، يفتقرون للمرافق الأساسية، ويعانون من فقدان منازلهم، مثل عائلة محمد مرسل وأم باسم وجميلة اللاجئة السورية.
- جهود الإغاثة والتحديات المستقبلية: رغم جهود الجمعيات الخيرية، الشاطئ غير مجهز للأعداد الكبيرة، والمسؤولون يحذرون من المخاطر، مطالبين الحكومة بتوفير مراكز إيواء كريمة.
تحوّل شاطئ الرملة البيضاء في بيروت إلى مساحة تجمع نازحين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، لم يجدوا مراكز تؤويهم بعدما هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية في الآونة الأخيرة.
منذ تصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان أخيراً، راحت أعداد النازحين الذين هُجّروا من الجنوب والبقاع (شرق) وضاحية بيروت الجنوبية تتزايد، وقد قُدّرت أخيراً بنحو 1.2 مليون نازح. وبينما تمكّنت عائلات كثيرة من حجز مكان لها إمّا في مركز إيواء مؤقّت وإمّا في منزل أحد الأقارب أو الأصدقاء، واستأجرت أخرى، من بين الأكثر اقتداراً، شققاً أو غرفاً فندقية أو غير ذلك، فإنّ لبنانيين كثيرين ما زالوا يفترشون أرصفة طرقات أو مساحات جزرية مزروعة في وسط المدن، ولا سيّما في العاصمة بيروت، في انتظار الفرج.
منذ مساء الاثنين 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما شنّت آلة الحرب الإسرائيلية أعنف غاراتها على البلدات الجنوبية الحدودية مع شمال فلسطين المحتلة، مخلّفةً نحو 500 شهيد في ذلك اليوم، راح نازحون من الجنوب يركنون سياراتهم بمحاذاة شاطئ الرملة البيضاء، غربي بيروت، قبل الانتقال إلى المحطّة التالية في عملية نزوحهم التي أتت مباغتة. وبعدما تبدّلت وجوه شاغلي كورنيش الرملة البيضاء وهوياتهم، راحت تُنصَب خيام في المكان، في الأيام الأخيرة، إذ لم يجد نازحون لبنانيون وسوريون وفلسطينيون أيّ ملاذ آخر لهم سوى شاطئ البحر هذا.
ومنذ أكثر من 10 أيام، افترش نحو ألف نازح الشاطئ، غير آبهين بأشعّة الشمس الحارقة، ولا حتى بزخّات المطر التي تساقطت قبل أيام قليلة. وبعدما هجّرتهم الغارات الإسرائيلية العنيفة من مساكنهم وحرمتهم راحة البال، يبدون غير مكترثين بغدر البحر المحتمل.
على أرجوحة صغيرة، منصوبة على شاطئ الرملة البيضاء الشعبي، يلهو حسين مرسل، طفل لبناني لم يتجاوز الثامنة من عمره. يخبر حسين "العربي الجديد"، ببراءة وحماسة، "وجدنا المراجيح ولعبة يا طالعة يا نازلة، ونقضي وقتنا باللعب والسباحة". ولا يخفي ابن الأعوام الثمانية أنّه يشتهي قطعة حلوى وكوباً من العصير، كما يفتقد فراشه وغرفته وألعابه، معبّراً عن رغبته في "العودة إلى منزلنا".
من جهتها، تشير والدته إلى ألم النزوح والعيش في العراء بحديثها لـ"العربي الجديد". وتقول: "نستحمّ في البحر أو نستخدم المحارم (المناديل) المبلّلة لتنظيف أنفسنا"، مضيفة أنّ ثمّة "دورة مياه وحيدة على الشاطئ، يقصدها يومياً مئات الأشخاص". وتتابع: "نزحنا من منزلنا في عين السكة بضاحية بيروت الجنوبية، هرباً من القصف المرعب، وكنّا نظنّ أنّها مسألة يوم أو يومَين قبل أن نعود إلى ديارنا، لكنّنا اصطدمنا بواقع التشرّد المرير". وتشدّد والدة حسين: "لا نريد العيش على الرمال ولا على الأرصفة. لا نريد إلا وقف هذه الحرب القاسية بحقّ الأبرياء".
أمّا محمد مرسل، والد حسين وخمسة أولاد آخرين، فتتآكله الهموم والخوف على المصير المجهول. يخبر "العربي الجديد" أنّ "وصولنا إلى رصيف الرملة البيضاء استغرق خمس ساعات، وسط الزحمة وحالة الهلع في الشارع والغارات الإسرائيلية المتتالية. لم نجد مدرسة تؤوينا، وما زلنا نفترش هذا الرصيف منذ 10 أيام. ولولا عدد من الخيّرين الذين وفّروا لنا بعضاً من الفرش والطعام، لكانت حالتنا أشدّ قهراً". يُذكر أنّ العائلة من بلدة كفرملكي الجنوبية، وتقيم في ضاحية بيروت الجنوبية منذ سنوات. ويخبر ربّ العائلة الستّيني: "هرعنا يومها (عندما اضطرّوا إلى النزوح) إلى السيارة بثيابنا، ولشدّة الوهلة لم نحمل شيئاً معنا؛ لا فرشا ولا طعاما ولا مياها. لكنّني وجدت في السيارة بطانية واحدة كنت قد نسيتها، إلى جانب ثلاثة ملايين ليرة لبنانية (نحو 34 دولاراً أميركياً) في محفظتي". ويشدّد الرجل: "لا نريد سوى راحة البال ومنزل دافئ يحمي أطفالي من برد الشتاء وقسوة العواصف"، مشيراً إلى أنّهم اضطروا إلى "قضاء الليل تحت سقف منزل في مقابل الرصيف، عندما تساقطت الأمطار قبل أيام". ويكمل أنّ "لا خيار أمامنا سوى محاولة الحصول على خيمة تؤوينا أو الاحتماء تحت حافة أيّ شرفة أو جسر، فيما يبقى الرصيف ملجأنا والشاطئ ملاذ أطفالنا".
لبنانيون وسوريون وفلسطينيون لجأوا إلى الشاطئ
على شاطئ الرملة البيضاء نفسه، تجلس أمّ باسم على كرسيها المتحرّك، فهي خضعت لعملية جراحية قبل نحو أسبوعَين بُترت في خلالها ساقها اليمنى، بعدما أقعدها المرض قبل ثلاثة أشهر في الفراش. لم يُكتَب للاجئة الفلسطينية المسنّة مريم حرز أو أمّ باسم، مثلما تحبّ أنّ تُنادى، أن تتعافى في منزلها، بل شاء القدر أن تحمل فوق آلامها وجع النزوح وهموماً كثيرة. بحزن، تسرد أمّ باسم لـ"العربي الجديد" كيف أنّها اضطرّت إلى مغادرة منزلها في مخيم صبرا، القريب من مطار رفيق الحريري الدولي - بيروت، برفقة حفيدتها البالغة من العمر 12 عاماً. تقول: "حملني جيراني إلى الحافلة، وحمَلَتْ حفيدتي وسادتَين وبطّانيتَين، وهربنا من الغارات العنيفة في اتجاه شاطئ الرملة البيضاء"، مضيفةً "نسيتُ أدويتي وماكينة الأكسجين المحمولة. فأنا أعاني من مشكلات في الرئتَين، مع سعال وضيق في التنفّس، وقد سبق لي أن دخلت المستشفى مرّات عدّة كنتُ فيها على حافة الموت. كذلك نسيت المضادات الحيوية اللازمة، إذ إنّ جرح ساقي المبتورة ما زال ينزف بعد العملية الجراحية".
واليوم، تعيش أمّ باسم على مسكّن للآلام، وجدته بالصدفة في جيبها، لافتةً إلى أنّ "حفيدتي تهتمّ بي، فيما تتولّى أمّ مصطفى رعايتي"، مردفةً "هي امرأة نازحة تعرّفتُ إليها على الشاطئ". وتتابع: "لكنّني لا أستطيع الاستحمام، فقط أنظّف نفسي بالمحارم المبلّلة، فيما أُنا مضطرّة إلى استخدام الحفاضات التي يؤمّنها خيّرون". وتكمل أمّ باسم: "كنت أودّ البقاء في المخيم عوضاً عن اختبار الذلّ والإهانة على الرمال، لكنّ الجيران أصرّوا ألا أبقى وحيدة وسط الخطر الناجم عن الغارات الجوية، فالشاطئ أكثر أماناً". من جهتها، تجهش حفيدتها مريم، التي سُمّيت تيمّناً بها، بالبكاء، عند سؤالها عن حالها وتمنياتها، علماً أنّ والدتها تركتها منذ زمن لدى جدّتها قبل أن تسافر عندما حُكم على والدها بالسجن. وتقول الحفيدة: "لا أريد إلا الفرج القريب والعودة إلى المنزل"، مؤكدةً أنّ "الحياة قست علينا كثيراً، وجدّتي لا تقوى على العيش وسط الرمال".
في ناحية أخرى من شاطئ الرملة البيضاء غربي بيروت، تراقب جميلة، الحاجة السبعينية، أمواج البحر وتستمع إلى ضحكات الأطفال وهم يلعبون بالمراجيح وبكرة القدم على الشاطئ. وتقول اللاجئة السورية، التي تردّدت بداية بالحديث: "نزحتُ برفقة ابنتي وابني وزوجته وأطفاله الأربعة من غرفة صغيرة كنّا نسكنها في منطقة برج البراجنة (ضاحية بيروت الجنوبية)، بعدما أصدر لنا العدو الإسرائيلي أمراً بالإخلاء. لم نحمل معنا إلا الحرامات (البطانيات)، لكنّنا حصلنا على فرش من الخيّرين". تضيف الحاجة جميلة: "اضطررنا إلى النزوح مجدّداً، بعدما اختبرنا موجات نزوح متكرّرة على مدى 13 عاماً. لا يمكننا العودة إلى سورية، لأنّ ابني مطلوب للاحتياط". وتشكو من عدم القدرة على الاستحمام على الشاطئ، ومن عدم توفّر إلا دورة مياه واحدة غير مجهّزة لذلك، مبيّنةً أنّ "ثيابنا لم تفارق أجسادنا منذ سبعة أيام. كذلك نأكل ما تيسّر من تقديمات الجمعيات الخيرية، لكنّنا لا نريد سوى العودة لغرفتنا المتواضعة والعيش بأمان".
المواطنة اللبنانية الخمسينية إيمان عجّان من الذين التجأوا إلى شاطئ الرملة البيضاء، وقد نزحت من منطقة حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، برفقة ابنها الثلاثيني. تخبر إيمان "العربي الجديد" أنّها تحصل فقط على "الطعام من حملة الأزرق الكبير (جمعية خيرية لبنانية)، وبالكاد حملتُ معي فرشتَين وبطانية وغطاءً وسط الغارات القوية في تلك الليلة (ليلة نزوحها)". وتتابع: "نعيش من قلّة الموت. لم أستحمّ منذ نزوحي، ولا أستطيع الوضوء والصلاة. أملنا بالفرج القريب وبأن تُزاح الغيمة السوداء".
وسط العدوان الإسرائيلي المتصاعد على لبنان، لم يجد تيسير محمود العمر سبيلاً لحماية عائلته إلا بالتوجّه إلى شاطئ الرملة البيضاء. هو أب لثلاثة أولاد، ويصرّ على أنّه ليس لاجئاً سورياً كونه يعمل في لبنان منذ عام 2007، أي قبل الحرب السورية، علماً أنّه من ريف حلب. يقول تيسير لـ"العربي الجديد": "مغضوب علينا في سورية ولبنان، وعندما استغثنا بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أتى الجواب: تمهّل ريثما نجد لكم مسكناً. فهل أنتظر مع عائلتي في الشارع أم على الشاطئ؟".
وكان تيسير قد نزح من منزله الواقع في مدينة صور (جنوب) إلى الحديقة العامة في هذه المدينة الساحلية، قبل أنّ ينتقل في وقت لاحق إلى مخيم صبرا (بيروت) ثمّ يحطّ رحاله عند شاطئ الرملة البيضاء. يخبر: "نسهر على الرمال حتى الفجر. حاولنا اللجوء إلى أكثر من مدرسة في بيروت، لكنّ الأولوية هي للبنانيين، وفقاً لما قيل. لفظتنا الحروب وموجات النزوح والعنصرية، ولم يستقبلنا سوى البحر بشاطئه. وقد استعنّا بشوادر الشماسي وجعلنا منها خيمة نحتمي بها من أشعة الشمس والمطر أخيراً". يضيف تيسير: "ننام عشرة أشخاص على ثلاث فرش وضعناها على كراسي البحر، فيما يصلنا الطعام مرّة واحدة يومياً، في غياب مياه الشرب"، مؤكداً "لا مقوّمات حياة كريمة هنا. ونحن نضطر إلى ملء غالونات من مياه الخزانات المتوفّرة على الشاطئ، نضعها تحت أشعة الشمس كي تسخن، ونستحمّ بها خلف الخيمة التي استحدثناها". ويقول محمود، ابن تيسير: "صار أقصى حلمنا النوم في فراش دافئ، تحت سقف يؤوينا".
بدورها، تعاني اللاجئة السورية في لبنان براء بريمو حساسية في الجلد، بعد أيام من نزوحها إلى الشاطئ. تقول لـ"العربي الجديد": "نعيش فعليّاً على الرمال، ومحرومون من أبسط مقوّمات النظافة الشخصية؛ لا صابون ولا شامبو ولا معجون أسنان ولا فوط صحية ولا أيّ شيء آخر. الرمال تعلق على ثيابنا وأقدامنا وعلى الفرش المحدودة التي حصلنا عليها من الخيّرين". تضيف براء: "هربنا من جنوب لبنان، مع حقيبة صغيرة تحتوي بضع قطع من الثياب ومنشفتَين. اضطررت إلى قصّ غالون المياه وتحويله إلى وعاء أنقع فيه ثيابنا وأغسلها بيدَيّ، فيما البرد والرطوبة يسيطران ليلاً، ولا نملك بطانيات". وتتابع: "نحاول قدر الإمكان الإبقاء على المبلغ المالي البسيط الذي في حوزتنا لشراء مياه الشرب واحتياجات أساسية أخرى". يُذكر أنّ براء أمّ لثلاثة أولاد، وتقرّ "هذه أبشع مرحلة في حياتي. لم أتصوّر يوماً أن أشتهي الطمأنينة وراحة البال إلى هذا الحدّ. فقد دُمّر منزلنا في سورية وزوجي مطلوب، وطريق عودتنا محفوف بالمخاطر، وها نحن في لبنان متروكون لمصيرنا".
لا نريد تحويل الشاطئ إلى مخيم إضافي
في سياق متصل، يقول عضو الهيئة الإدارية في "حملة الأزرق الكبير" والمسؤول عن شاطئ الرملة البيضاء الشعبي، نزيه الريّس، لـ"العربي الجديد" إنّ "القدرة الاستيعابية القصوى للشاطئ تصل إلى حدود 15 عائلة، أي 100 شخص، غير أنّ العدد اليوم يصل ليلاً إلى حدود الألف وسط حالة الهلع التي تسبّبت فيها الغارات الإسرائيلية العنيفة، الأمر الذي دفع أهالي المناطق المستهدفة والمجاورة لها إلى النزوح صوب الشاطئ". يضيف أنّ "من بين هؤلاء من يغفو على الكراسي ومن لا يستطيع النوم، فيتمدّد على الرمال في انتظار بزوغ الفجر، حتى يعود إلى منزله، هذا في حال تمكّن من ذلك أو في حال نجا منزله من القصف والدمار".
ويحذّر الريّس من أنّ "الشاطئ ليس مكاناً للإقامة الدائمة، فهو غير مجهّز لذلك، كذلك فإنّ النازحين عرضة لخطر الأمواج التي تلامس أحياناً جدار الكورنيش. وبالفعل، قبل أيام وصل الموج إلى خيام عدد من النازحين الذين اضطرّوا إلى نقلها". ويبيّن الريّس: "نؤمّن الطعام والوجبات الساخنة عبر المبادرات الفردية والجمعيات الخيرية، كذلك نتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود لتركيب حمّامات نقّالة، لكنّ المشكلة تكمن بكلفة تنظيفها والتخلّص من الصرف الصحي". ويتابع: "للأسف، لم تصل إلينا أيّ مساعدات من خطة الطوارئ الوطنية، علماً أنّ العدد الأكبر من النازحين على الشاطئ كان في البداية من اللبنانيين، قبل أن تصير النسبة اليوم تقريباً 75% من اللاجئين السوريين و25% من اللبنانيين". ويكمل الريّس أنّ "المطلوب من الحكومة اللبنانية اتخاذ إجراءات عاجلة، إمّا بالتنسيق مع النظام السوري لعودة اللاجئين المشرّدين على الشاطئ أو إيجاد مراكز إيواء كريمة لهم على الأراضي اللبنانية. فاللاجئ السوري يتمتّع بحقوق الإنسان أسوة باللبنانيين". وإذ يشير المسؤول عن شاطئ الرملة البيضاء إلى أنّه طلب فقط أربع خيام من إحدى الجمعيات الكشفية لإيواء العدد الهائل من النازحين الذين لجأوا إلى هذا الشاطئ، يشدّد على "ضرورة الإسراع في إيجاد حلّ جذري، إذ لا نريد تحويل الشاطئ إلى مخيم إضافي".