من داخل قصر تحول إلى مركز ثقافي، وسط البلدة القديمة في مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية، في فلسطين المحتلة، تمضي مهندسة الديكور الشابة، نورا جردانة، ساعات طويلة يومياً، وهي تعيد رسم تاريخ نابلس في العصور الكنعانية والرومانية وصولاً إلى العصر العثماني، في مجسمات من الحجارة الصغيرة، تجعلك تعيش تلك الحقب كأنّها حاضرة اليوم.
في بهو واسع من مركز تنمية موارد المجتمع، التابع لبلدية نابلس، أنهت جردانة مجسماً ضخماً للبلدة القديمة بنابلس بكامل تفاصيلها؛ الأزقة والأحواش، والحارات بما تحويه من مساجد وكنائس ومصابن (معامل الصابون) ومؤسسات، في صورة طبق الأصل عن الواقع المعاش اليوم. وبنت جردانة المجسم بدقة بالغة بعد الاستفادة من الصور الجوية، فصممت المباني من الورق المقوى، ثم رصفتها بالحصى الصغيرة، فكانت تحمل الحصاة بملقط خاص وتلصقها على المجسم، في عمل شاقٍ ومضنٍ استغرق نحو ثلاث سنوات.
إلى جانب ذلك المجسم مجسم آخر دائري، تتباعد فيه المنشآت قليلاً، على العكس من الأول، الذي تلتصق فيه وتتقارب. هذا المجسم يعود إلى تلّ بلاطة، أو شكيم الكنعانية، وقد بني على أساس ما توصلت إليه البعثات الأثرية المتعاقبة من شكل للمدينة في ذلك العصر، فيما يجري العمل على إنجاز المجسم الثالث الخاص بنابلس في الفترة الرومانية والتي كانت تسمى آنذاك فلافيا نيابوليس.
تقول جردانة لـ"العربي الجديد": "مدينة نابلس، وهي من أقدم المدن في العالم إذ ترجح الدراسات أنّ عمرها يزيد عن خمسة آلاف عام فيما يعود تاريخ بلدتها القديمة إلى ألفي عام، تستحق الحفاظ عليها والترويج لها كبلدة سياحية قديمة ما زالت تحافظ على حيويتها". تضيف: "إذا استصعب الزائر السير في نابلس، للتمتع بأجوائها ومعرفة تاريخها، فنحن اختصرنا عليه ذلك، إذ يمكن وهو يقف مطلاً على هذه المجسمات أن نشرح له أدق التفاصيل، ونكشف له أسرارها ويعيش متنقلاً بين العصور التي مرّت فيها".
وليس المشروع مجرد مبانٍ عشوائية، بل سبق العمل الفني الذي تقوم به جردانة، أشهر طويلة من البحث والقراءة والزيارات الميدانية قامت بها المهندسة للأماكن التي جسدتها، وساعدها في ذلك كونها مرشدة سياحية. يقول مدير مركز تنمية موارد المجتمع، أيمن الشكعة لـ"العربي الجديد": "عملنا كخلية نحل لتوفير أكبر عدد ممكن من المصادر الموثوقة؛ كالكتب، والدراسات التي تحدثت عن تاريخ نابلس، بالإضافة إلى خرائط قديمة متل خريطة مادبا الفسيفسائية التي عثر عليها في الأردن وتتحدث أجزاء منها عن مدينة نابلس، عدا عن الأبحاث الجامعية ورسائل الماجستير، بالإضافة إلى دراسة تخطيط المدن الرومانية، وذلك من أجل التوصل لتصور دقيق لشكل المدينة في الحقبة الرومانية". يضيف الشكعة: "استطعنا تحديد أهم معالم الفترة الرومانية المتمثلة بالبازليكا (مجمع الدوائر الحكومية) والأسوار، كما وصلنا في بحثنا لتفاصيل دقيقة وظفتها نورا جردانة في عملها، كي تستطيع التفريق بمجسماتها بين المباني العامة والبيوت السكنية، والتفريق أيضاً بين بيوت عامة الناس وطبقة الأغنياء".
ويشير الشكعة إلى أنّ فريق العمل لم يكتف بالمجسمات الحجرية لمدينة نابلس "فمع فرض حالة الطوارئ ومنع التجمعات والجولات السياحية والالتزام بإجراءات الوقاية والسلامة للحدّ من انتشار فيروس كورونا قبل نحو 8 أشهر، عملنا على ابتكار ألعاب للأطفال في شكل رسومات وبطاقات بازل (أحجيات) وغيرها، تمكنهم من معرفة معالم مدينتهم أو أي مدينة فلسطينية أخرى". يتابع الشكعة، "صممنا الألعاب التي تتحدث عن الآثار والتاريخ بطرق مبسطة وتفاعلية، وهكذا نرسلها إلى الأطفال في منازلهم ليحلوها أو يلونوها مع عائلاتهم من باب التسلية والمعرفة، وتشجيع السياحة الداخلية أيضاً، إذ سيتشوق الأطفال لرؤية تلك المعالم والآثار التي قاموا بجمعها أو تلوينها عبر الألعاب".
توأمة مع ليل الفرنسية
العمل الفني الذي تتولاه المهندسة نورا جردانة جزء من مشروع التوأمة بين بلدية نابلس وبلدية ليل الفرنسية، بهدف التوعية بالموروث الثقافي لنابلس عبر حقب مختلفة. المشروع موجه خصوصاً إلى الأطفال والشباب لتعزيز انتمائهم إلى أرضهم وربطهم بها ليحافظوا عليها، بالإضافة إلى تشجيع السياحة، ونشر المعرفة.