بعدما تركز حلم بعض فلسطينيي ألمانيا طوال سنوات على تأسيس ما يجمعهم، خصوصاً لمواجهة تزايد محاولات اللوبيات الصهيونية تجريم أنشطتهم، أسسوا في العاصمة برلين عام 2017 مركز "موزاييك" كمؤسسة تعمل بشكل مستقل لرفع شأن الفلسطينيين، وتقديمهم في قالب صحيح أمام محيطهم.
ويهتم القائمون على مركز موزاييك بإبراز التراث والثقافة الوطنية الفلسطينية، ويحرصون، كما يقول رئيسه ثائر حجو لـ"العربي الجديد" على تنظيم "اللمّة الفلسطينية التي تشكل عنواناً ثابتاً يجمع الفلسطينيين على موائد إفطار أسبوعية، ومنها تلك في رمضان، وأنشطة العيد، إذ يلتقي أفراد أسر على الطاولات ويتناولون أكلات فلسطينية، ويحضر شبان من داخل فلسطين الكنافة النابلسية".
حين يقترب زائر من واجهة مركز "موزاييك"، في أحد ضواحي العاصمة الألمانية برلين، يشده تثبيت لوحتين طوليتين على واجهته. ويوضح حجو أنّ "المركز تأسس تحت مظلة المجلس المركزي الفلسطيني في ألمانيا بهدف تقديم الرواية الفلسطينية مقابل نشاط المجلس المركزي اليهودي".
وتنتشر على واجهتي المقر أوانٍ مزخرفة من الطراز الفلسطيني القديم، بألوان زاهية، وكتب بعناوين عربية تتناول التاريخ والأدب والاجتماع والسياسة تشكل جزءاً من المكتبة الضخمة داخل المركز، حيث رُفعت في باحته الرئيسية لوحة فنية للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات "أبو عمار".
وتمثل محتويات الكتب "أرشيف فلسطين" الذي يتعامل معه القائمون على المركز بحرص كبير، لكنه متاح أيضاً لمن يريد نسخه واستخدامه داخل المركز. كما يسمح باستعارة أو اقتناء مئات من الكتب الأخرى، كما يشرح أحد القائمين على المكتبة عبد اللطيف أبو ماضي.
ويقول حجو "أبو المجد" المقيم في ألمانيا منذ نحو ربع قرن: "صحيح أن طابع وجوهر اهتمام مركز موزاييك هو فلسطين وجاليتها الكبيرة في ألمانيا، لكنه فسحة لكل الجاليات الأخرى، إذ يحتضن أنشطة من دول عربية مختلفة، ويستقبل أيضاً أنشطة الأخوة الأكراد".
انطلقت فكرة تأسيس مركز "موزاييك" قبل سنوات طويلة من ضرورة احتواء تأثيرات التشرذم والانقسام داخل فلسطين على الجاليات، ومحاولات لوبيات مؤيدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي محاصرة هوية فلسطين. وأمل حجو وبعض الأصدقاء الذين موّلوا الفكرة في جعل المركز جسراً ثقافياً واجتماعياً ومعرفيا للأجيال الشابة، لذا ركزوا على أنشطة "اللمّة الفلسطينية"، سواء الأسبوعية تلك الخاصة بشهر رمضان والأعياد.
ويلاحظ من يزور مركز "موزاييك" أن جيلاً شاباً يُشرف على نشاطاته، ما يعكس اهتمام القائمين عليه بربط الشباب بثقافتهم العربية والفلسطينية، وتجهيزهم للعب أدوار وسط جاليتهم والمجتمع الألماني".
وكان عام 2015 شهد إطلاق نقاشات بين أشخاص وشبان من الجالية الفلسطينية في ألمانيا جمعتهم الهموم الاجتماعية والسياسية في البلد، وتطلعوا إلى تنفيذ عمل يجمع الجالية بعيداً عن التفرقة السياسية.
ويذكر القائمون على "موزاييك" أن الأمور لم تكن ممهدة في البداية، وأنهم واجهوا صعوبات تعلقت بأوضاع الجالية من جهة، ومن جهة أخرى بالقوانين ومواجهة ضغوط اللوبيات. ويقول حجو: "في البداية اتفقنا إثر اجتماع حضرته نحو 50 شخصية مستقلة، على اختيار تسمية المجلس المركزي الفلسطيني في ألمانيا لمواجهة محاولة اللوبيات تشويه صورة الجالية وقضيتها، وانتخبت هيئة إدارية، ثم واجهنا مشقة كبيرة في إيجاد المقر، والحصول على ترخيص لتسجيله لدى السلطات، وهو ما أخذ وقتاً واحتاج إلى جهود كبيرة".
ومنذ أن افتتح عام 2017 استقطب موازييك جمهوراً ولعب دوراً في احتضان وإقامة نشاطات ثقافية واجتماعية وسياسية وموسيقية، أما تمويله فما زال يعتمد على الجهود التطوعية لمؤسسيه وبينهم حجو الذي يعتقد بأن "أبناء الجيل الجديد، وبعضهم قدموا صغاراً إلى ألمانيا أو ولدوا فيها، يستطيعون لعب أدوار رئيسة في معالجة مشكلات تتعلق بالبيئة الاجتماعية والسياسية للجالية الفلسطينية التي تعاني كما كل الجاليات في أوروبا".
يضيف: "الاهتمام بجوانب الثقافة والاجتماع مدخل مهم للشبان بعيداً عن الانتماء الفئوي الضيّق، وتبقى الفكرة الرئيسة تشكيل المركز ما يشبه نواة لوبي فلسطيني".
ويشدد على أن "موزاييك يرفض التموّيل الذي يمكن أن يؤثر على عمله أو يجعله تحت وصاية مموّلين، وحالياً تلقينا وعوداً من شخصيات مقتدرة من الجالية للمساهمة في دعم المركز وأنشطته، ونحن نرحب بلا شروط بأي دعم من خارج ألمانيا كي يستمر المجلس ومركز موزاييك في جمع الفلسطينيين من دون تفرقة وحساسيات".
ويؤكد فلسطينيون تحدثوا لـ"العربي الجديد" خلال مشاركتهم مع أطفالهم في نشاطات اجتماعية بالمركز أن "موائد الإفطار بعنوان اللمّة الفلسطينية مهمة جداً ليس فقط لتعريف صغارنا بأصولنا، بل أيضاً لشد أواصر أفراد الجالية، كما تشكل فرصة لدعوة أصدقاء ألمان وغيرهم لمشاركتنا ثقافاتنا وعاداتنا الفلسطينية".
ويلاحظ في عمل "موزاييك" انخراط نساء وشابات في الأعمال، وترى ناشطة أن "المركز يوفر مظلة لتسهيل عملية الاندماج الناجح، إذ يسمح بالاطلاع على بعض القوانين، وتبادل ما يحتاجه القادمون الجدد مع أولئك المقيمين منذ زمن في البلد".
وعلى مستوى التحصيل العلمي، يفتح "موازييك" أبوابه أمام الطلاب الذين يحتاجون إلى مساعدات من خلال شباب يواصلون دراستهم الجامعية، ويملكون القدرة على مساعدة من هم في بداية طريقهم. ويكرّم المركز المتفوقين من الطلاب المتفوقين، ومن يحققون نجاحات في مستويات مختلفة بألمانيا.
لكن ذلك لم يمنع حجو الذي هاجر منذ زمن طويل من مخيم اليرموك في دمشق، من إبداء قلقه من مصير استمرار المجلس المركزي الفلسطيني في ألمانيا ومركز "موزاييك" إذا لم يلقَ الدعم المالي الكافي لذلك "فتغطية أجرة المركز، الذي يقع في منطقة مركزية ببرلين، يبقى هاجساً لدي بعدما أصبحت أسدده من جيبي الخاص، لكنني مصرّ على أن العمل مع الجيل الجديد الشاب سيحقق الأهداف المنشودة في نهاية المطاف، فالتسلح بدعائم المعرفة والعلم والثقافة ذات وزن مهم في تحقيق هدف الانخراط القوي بالمجتمع الألماني مع الحفاظ على كينونة وهوية وانتماء عربي فلسطيني بالدرجة الأولى".
ويأمل مشاركون في الأنشطة الأسبوعية العائلية بمركز "موزاييك" في تحقيق الأهداف التي يسعى إليها المركز، ويصرّ بعضهم على مشاركة أطفالهم في نشاطاته كمدخل لربطهم بثقافتهم وهويتهم الأصلية.
وفعلياً استطاع مركز "موزاييك" استقطاب واستضافة العديد من الأنشطة، وأصبح منبراً ثقافياً وفنياً واجتماعياً مهماً، من دون إغفال استقباله أيضاً ندوات سياسية وأنشطة متعددة يقيمها غير الفلسطينيين". ويحرص "موزاييك" على تقديم "مساحة حرة" لجاليات أخرى عدة بينها السورية التي تضم شخصيات وصلت إلى ألمانيا بعد عام 2014، ويرتاده كتّابها وفنانوها وشبانها الذين أنشطتهم الفنية واجتماعاتهم داخل المركز.
كما يستضيف موزاييك العديد من الشخصيات الألمانية التي جرى محاورتها في قضايا تهم الجاليات، وأخرى عربية. ويحضر مئات من الفلسطينيين والعرب هذه النقاشات التي تهم واقع ومستقبل المقيمين فوق أراضي ألمانيا.