استمع إلى الملخص
- أدى استمرار العدوان الإسرائيلي إلى تغيير عادات الدفن التقليدية، حيث دفن البعض ذويهم دون تشييع لحمايتهم، واستهدف الاحتلال المقابر، مما دفع الناس لدفن ذويهم في الشوارع أو المنازل.
- استشهد العديد أثناء البحث عن الطعام أو الهروب من القصف، مما أجبر ذويهم على دفنهم في المنازل أو بالقرب منها، مما زاد من الأحزان والمعاناة.
كشف الدفاع المدني في قطاع غزة، الأحد، عن اختفاء 2210 من جثامين الشهداء من مقابر متفرقة في القطاع، فضلاً عن اختفاء 1760 جثة أخرى اعتبر أنها "تبخرت بسبب استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي لأسلحة محرمة دولياً".
ودفعت الظروف سكان المنطقة الشمالية خصوصاً إلى دفن ذويهم في أي منطقة رملية يستطيعون الدفن فيها، وبعد أن استباح جنود الاحتلال عدداً من مقابر المنطقة الشمالية، والعديد من المقابر العشوائية التي دفن فيها سكان قطاع غزة جثامين ذويهم، اضطر كثيرون إلى دفن الشهداء في داخل المنازل، أو بالقرب من منازلهم المدمرة، في محاولة لمنع سرقة الجثامين أو العبث بها، وعلى أمل نقلها بعد انقضاء العدوان إلى المقابر.
وأدى استمرار العدوان الإسرائيلي إلى تغيير عادات وتقاليد متوارثة في مراسم الدفن، إذ اتجه البعض في البداية للدفن من دون تشييع حتى يحفظوا أرواحهم، ولا يخلقوا مبرراً للاحتلال لاستهدافهم، ثم استهدف الاحتلال المقابر، فاتجه البعض إلى دفن ذويهم في الشوارع أو الأراضي القريبة، ولاحقاً أصبحت المنازل أنسب خيار للدفن.
رصد الدفاع المدني اختفاء 2210 جثامين من مقابر متفرقة في غزة
نزحت سوزان جبر إلى أحد المنازل في محيط مجمع الشفاء الطبي، وتعرضت المنطقة لحصار طويل، ثم استهدف الاحتلال المنزل بالقصف خلال المجزرة الإسرائيلية التي نفذها على المجمع الطبي، فاستشهدت مع عدد من الأطفال والنساء في المنزل، وقام شقيقها عبد الكريم جبر بانتشال جثمانها، لكنه عجز عن إيجاد مكان لدفنه، إذ كان يخشى أن يتم نبش المقبرة ومصادرة الجثامين، كما فعل الاحتلال في مجمع الشفاء الطبي، حيث اختفت جثامين عدة كانت مدفونة في مقبرة جماعية داخله.
يقول جبر لـ"العربي الجديد": "لم يترك الاحتلال لنا مجالاً لتكريم شهدائنا في وقت الحرب، وشقيقتي الشهيدة أم لثلاثة أطفال أصيبوا في القصف، وإحدى بناتها بترت ساقها، والطفلان الآخران أصيبا بجراح بالغة، وبعد أسبوع كامل من البحث عن مكان، قررت دفنها بالقرب من منزلنا الواقع شرقي حي النصر، وهو مدمر جزئياً. دفنتها في المساحة الفاصلة بين منزلنا ومنزل جيراننا، ووضعت حجارة على القبر، على أمل أن أعود لدفنها في إحدى المقابر الكبيرة. حتى الأموات لا يسلمون من العدوان، وشقيقتي هي عرضي. كنت أتمنى لو أن الله يرفع جسدها إلى السماء كما أخذ روحها لأننا لا نضمن ألا يصادر الاحتلال الجثامين، لذا كثيرون مثلي دفنوا ذويهم في منازلهم".
وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن الاحتلال لا يزال ينبش المقابر، ودمر عدداً منها، خصوصا في المنطقة الشمالية ومدن رفح وخانيونس بالمنطقة الجنوبية، ما يضطر بعض الأهالي إلى الدفن في المنازل أو محيطها، خصوصاً مع عدم وجود وسائل نقل، ويكتفي الأهالي بتسجيل أمواتهم في أقرب مركز صحي، أو عبر سجلات وزارة الصحة.
ويقول المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني، محمود بصل، إنهم عثروا على عدد من الجثامين المتحللة في مناطق عدة، وتم وضعها في السجلات بتفاصيل تشير إلى ما يمكن الاستدلال على هوية أصحابها لكن الاحتلال استهدف معظم مقابر المنطقة الشمالية، مما دفع الناس إلى عدم الدفن فيها، أو حتى الاقتراب منها.
يضيف بصل لـ"العربي الجديد": "المفقودون حالياً يتجاوز عددهم 10 آلاف نسمة، ولا يمكن تحديد نسبة تقديرية لمن يمكن معرفة مصيرهم من بينهم، لكن أعداد الشهداء ستكون أكبر بالتأكيد، وقد رصدنا اختفاء 2210 جثامين من المقابر التي جرى نبشها، وجرت مصادرة الجثامين، وبعضها مقابر جماعية أنشئت خلال العدوان في المنطقة الشمالية على وجه التحديد، كما نبش الاحتلال مقابر عائلية دفنت فيها عشرات الجثامين في أراض زراعية أو فارغة بالقرب من المناطق السكنية، ولا نعرف السبب الذي يدفع لذلك، وبات الناس في غزة يميلون إلى الدفن في داخل المنازل، ويميلون لدفن أكثر من جثمان في نفس القبر".
استشهد فادي الخالدي (25 سنة) خلال بحثه عن طعام لأسرته، إذ قامت طائرة استطلاع إسرائيلية باستهدافه مع ثلاثة من رفاقه بالقرب من حي الرمال. ودفنه شقيقه محمد الخالدي (40 سنة) داخل منزلهم المدمر جزئياً بحي النصر في مدينة غزة، بعد أن كان يفكر في البداية بدفنه في مقبرة البرية القريبة، لكن جيش الاحتلال الإسرائيلي اجتاحها، ودمر مقابر عدة فيها. بعدها فكر في دفنه بالمقبرة الشرقية لمدينة غزة، لكن العملية العسكرية على أحياء الشجاعية والتفاح والدرج منعته من ذلك.
يقول الخالدي لـ"العربي الجديد": "سكان غزة يقومون بدفن ذويهم في المنازل أو بالقرب منها حال كان المنزل مدمراً، أو يقومون باختيار منزل مدمر جزئياً توجد فيه ساحة رملية، على أمل أن تبقى الجثامين موجودة في القبور حتى يعودوا لاحقاً لنقلها ودفنها بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، وهذا بالطبع يزيد من الأحزان والمعاناة، لكن الاحتلال أجبرنا على ذلك، فهو يكرر العبث بجثامين الشهداء وسرقتها في بعض الأحيان".
يضيف: "عندما أمسكت الفأس وبدأت الحفر، غلبني البكاء فتوقفت، ثم عدت مجدداً بعد ساعة. كأنني كنت أحفر في جسدي، حتى أن الرمال التي كنت أخرجها كانت قاسية وفيها صخور، إنها معاناة مضاعفة. لم أكن أريد فعل هذا، لكنني أيضاً لا أريد لجثمان شقيقي أن يظل من دون دفن. أجلس كل يوم بالقرب من قبره وأبكي. كان شقيقي من أوائل دفعته في كلية الهندسة بالجامعة الإسلامية، وحصل على عقد عمل في شركة تكنولوجية في الولايات المتحدة الأميركية للعمل مبرمجا، وتوقفت كل الخطط بسبب الحرب. كان مثل ابني، وليس شقيقي، وفي بعض الأحيان كنت أستشيره في المسائل التقنية ليقوم بحل مشكلاتي سريعاً".
دفن محمد الغول صديقه حمزة عمر في منزله بحي الشيخ رضوان، والذي كان مدمراً جزئيا، ويحزنه أن الاحتلال الإسرائيلي قصف المنزل مجدداً في مايو/أيار الماضي، وبات القبر المؤقت تحت الأنقاض، ولا يعرف إن كان الجثمان سليما أن تضرر.
يقول الغول لـ"العربي الجديد": "الاحتلال لا يرحم من هم فوق الأرض، ولا من هم تحتها. فقدت عائلتي ما لا يقل عن 100 شهيد، وكان صديقي الشهيد حمزة متزوجاً من عائلتي، وأصبحت زوجته أرملة وطفلاه يتيمين، وأردت بناء على طلب زوجته دفنه في إحدى مقابر المنطقة بالقرب من جثمان والدته، لكن الاحتلال دمر تلك المقبرة، فلم يكن أمامنا حل سوى دفن جثته بمنزلنا بعد تكفينه، على أن أقوم بنقل الجثمان بعد العدوان، وتنفيذ وصيته".