لم يسلب انتشار الاشتراكات الفردية والجماعية في قنوات "بي إن سبورت" المقاهي الشعبية المصرية سحرها، لكنها لا تزال تكافح لاجتذاب الرواد الذين ذهب بعضهم إلى وجهة أخرى للتلاقي، هي المقاهي الحديثة ذات الشاشات العريضة، والجلسات الراقية التي توفر راحة أكبر للزبائن عند متابعة مباريات كأس العالم في مقابل أسعار تتجاوز عدة أضعاف مثيلتها الشعبية.
مع كفاح المقاهي التقليدية للبقاء، يناضل أصحابها، ومعهم العاملون فيها بدورهم، من أجل أن تكون أكثر جاذبية للزبائن في ظل أعداد المقاهي الكبيرة، خصوصاً في الأحياء المزدحمة، فالزبائن بالأساس "مصدر أكل العيش".
قضى العم "أوشه" أكثر من ثلث عمره يعمل قهوجياً، ويقول إنه عرف فيها "العجب" من "مجانين الكرة" كما يطلق عليهم، وهو لا يستثني نفسه من هذا "الجنون" الذي "يتنفّسه" مع دخان كل نارجيلة يضعها أمام أحد زبائن المقهى. لمباريات بطولة كأس العالم نكهة مختلفة لدى "أوشه"، وهو يعرف مذاقها في عيون وتصرفات الزبائن، ويتذكر هذا مع كل مونديال.
رغم أن أيام المونديال تشكل إرهاقاً له نظراً لازدحام المقهى بالزبائن، وكثرة الطلبات التي تستدعي عدم توقفه لحظة للراحة خلال المباريات، إلا أن انطلاق بطولة كأس العالم بمثابة "عيد" يحل كل أربع سنوات، ويقول إن له "مذاقاً مختلفاً" هذا العام لأنه يقام لأول مرة في دولة عربية، هي قطر، وهو يتوقع أن تضم البطولة "كرة نظيفة، وتحكيماً جيداً، وكل شيء سيكون منظماً"، مقارنة بمباريات الكأس والدوري المحلية.
تكتسب المقاهي مذاقاً مختلفاً وتزداد ازدحاماً مع تقدم أيام المونديال، ويحدث ذلك عادة بعد دور الثمانية، إذ يتزايد التطلع بين الزبائن لمعرفة من يكون المنتخب الفائز، ومن أكثر الأعوام التي شهدت اهتماماً كبيراً بمباريات كأس العالم عام مونديال روسيا 2018، وأكثر مباراة زحاماً كانت للمنتخب المصري أمام روسيا، وفاز المنتخب الروسي وقتها بثلاثة أهداف لهدف واحد لمصر.
في السنوات التي يغيب فيها المنتخب المصري عن كأس العالم يتذكر "أوشه" أن أكثر المنتخبات التي يتابعها المصريون هي البرازيلي والفرنسي، وأحياناً الأرجنتيني، وأن جمهور المقهى الذي يقع في وسط القاهرة يفضل من بين نجوم الكرة العالميين نيمار، وكيليان مبابي، وليفاندوفسكي.
ومثل زبائنه، فإن أوشه مولع بمباريات كرة القدم حد أن "الولعة"، وهي الفحم المشتعل الذي يوضع فوق حجر النارجيلة، تهتز بين يديه بينما يقوم برصها للزبون، إذ يفعل ذلك في نفس الوقت الذي يتابع بعينيه لحظات المباريات الفارقة، فيكون جزاؤه لسعة حارقة على جلده، فضلاً عن تقريعه من صاحب المقهى المنشغل مثله بالمباراة، والذي لا يتسامح مع انشغال العاملين في المقهى بها.
رغم لسعة النار، والجزاء القاسي من المالك أحياناً، لكن ذلك لا يمنعه من الولع بالمباريات، ولا يكف عن اختلاس النظر إلى الشاشة، ويتعمد المرور قريباً منها خلال حركته في المقهى حاملاً طلبات الزبائن.
يغضب "أوشه" عندما يفوته هدف رائع، أو تمريرة جميلة، ويقول إنه أحياناً ما تفوته مباراة بالكامل. مع هذه المرارة الناتجة عن فوات المباريات، لا يخلو الأمر من طرافة، إذ لا ينسى يوم وجد أن حساب الليلة كان ناقصاً. ويروي: "كان ذلك ليلة هدف محمد صلاح في مباراة المنتخب المصري مع روسيا في كأس العالم 2018. اكتشفت أن عدداً من الزبائن أنساهم الانفعال بالمباراة دفع حساب الطاولة التي كانوا عليها، تسامح معي صاحب القهوة ليلتها، ولم يحملني الحساب، فقد كان مثلي حزيناً من أجل منتخب مصر الذي كان الجميع يأمل أن يعبر الدور الأول".
يلتقط طرف الحديث العم بلال، والذي يتذكر هذه الليلة جيداً، وخصوصاً حين انتفض صديقه خالد، وهو أحد زبائن المقهى الدائمين، وأخذ يرقص طويلاً بعد أن أحرز محمد صلاح هدفه خلال المونديال الأخير، وكيف أن أحد شباب "الأولتراس"، وهو أيضاً من رواد المقهى الدائمين، ويدعى معاذ، كاد يشعل حريقاً حين أوقد "شماريخ" من فرحته بهدف محمد صلاح.
ولا ينسى العم بلال أن آمال المصريين في كأس العالم الماضي لم تكن الوصول إلى النهائيات، فهم يدركون إمكانات فريقهم، لكن الجماهير كانت تبتهل أن يحرز محمد صلاح هدفاً لكي يكف لاعب المنتخب السابق مجدي عبد الغني عن معايرة المصريين بالهدف الوحيد لمصر في تاريخها المحدود مع كأس العالم، وهو الهدف الذي أحرزه من ضربة جزاء في مرمى المنتخب الهولندي في مونديال عام 1990.
ويقول إنه يتذكر هذا الهدف، إذ كان شاباً وقتها، وقد فرح المصريون به، واعتبروا عبد الغني بطلاً قومياً يحتفون به، ثم بات الأمر "ماسخاً" بعد أن كرر اللاعب الحديث عن إنجازه غير المسبوق، حتى قام محمد صلاح بتحطيم منجزه.
في المقابل، يحمل زيزو، وهو شاب مولع بكرة القدم من مرتادي المقهى، عتاباً لمحمد صلاح، وبقية لاعبي المنتخب المصري المحترفين في الأندية الأوروبية، ويقول إنهم يلعبون مع المنتخب المصري بحذر خوفاً على سلامتهم، ولا يقدمون الجهد الكافي الذي نراهم يقدمونه مع فرقهم.
وضاع حلم منتخب مصر، والملايين من أنصاره، في التأهل لمونديال قطر، على أيدي المنتخب السنغالي، فبعد فوز المنتخب المصري بهدف نظيف في القاهرة، فاز المنتخب السنغالي في مباراة العودة، ليحتكم الخصمان بطل أفريقيا ووصيفه لضربات الجزاء التي انتهت بتأهل البطل السنغال لكأس العالم.