مسيحيو الموصل... تنصّل من وعود الإعمار يعوّق العودة

20 يوليو 2022
هذه أرضنا... ونحن لسنا "أقليّة" (زيد العبيدي/ فرانس برس)
+ الخط -

في وقت تمضي فيه الحكومة العراقية بإطلاق وعودها المتعلقة بتوفير الوسائل اللازمة لعودة آلاف الأسر المسيحية إلى مدينة الموصل (شمال) وضواحيها، يبدو الواقع مخالفاً لذلك كلياً. فأعداد العراقيين المسيحيين بالمدينة في تراجع مستمر، بعدما عادوا إلى منازلهم عقب تحريرها من سيطرة تنظيم داعش في عام 2017. ويعزو مسؤولون الأمر إلى استمرار هيمنة الفصائل المسلحة على المناطق ذات الغالبية المسيحية بمعظمها، من بينها تلكيف والحمدانية والقوش وبعض أحياء مركز المدينة، بالإضافة إلى عدم إعادة إعمار الكنائس وغياب الخدمات وسوء المعاملة في الدوائر الرسمية وتصنيف المسيحيين كأقليّة.
وكان تنظيم داعش قد اقتحم مدينة الموصل الواقعة في محافظة نينوى قبل ثمانية أعوام، في يونيو/ حزيران 2014، وعمد إلى تدمير معالم المدينة التاريخية، من بينها أقدم كنائس المسيحيين، وحوّل عدداً كبيراً منها إلى مراكز تعذيب وإعدامات ومصانع قنابل وميادين رماية ومراكز لتدريب الأطفال على حمل السلاح، بالإضافة إلى سرقة آثارها والتحف واللوحات الفنية النفيسة والمخطوطات النادرة. بالتالي أُلحِق الضرر بنحو 30 كنيسة، ولم يُرمَّم منها إلا عدد قليل بجهود ذاتية من قبل أفراد من المسيحيين جمعوا تبرّعات من أجل هذا الغرض، في غياب أيّ دور للسلطات العراقية أو جهود أممية أو مبادرات تطلقها منظمات مختلفة.

لا تخفي ميرنا أثير، وهي ناشطة مسيحية من الموصل، أنّ "أوضاع المسيحيين لا تسرّ، وأنّهم يتعرّضون لضغوط يومية من جرّاء انهيار منازلهم والبنى التحتية، وتراجع الخدمات وعدم ترميم الكنائس، وسوء المعاملة، وسيطرة المليشيات المسلحة على كلّ دوائر الدولة". تضيف أثير لـ"العربي الجديد" أنّ "في الموصل حالياً، عدداً قليلاً من الأسر المسيحية، وقد لا يتجاوز المائة، وهي بمعظمها غير راضية بالبقاء في المدينة. لذا، لدى كثيرين من المسيحيين منازل أو أقرباء لجأوا إليهم في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، أو انتقلوا إلى بلدان أخرى".
وتشير أثير إلى أنّ "وزارات الهجرة والصحة والإعمار والإسكان وبعض الهيئات الوطنية والمنظمات الدولية ودولاً عربية، كلها كانت قد تعهّدت بإعادة تأهيل وبناء دور المسيحيين وكنائسهم وإعانتهم وتعويضهم عمّا تعرّضوا له من مآسٍ وويلات في السنوات الماضية، إلا أنّ أياً من ذلك لم يحدث. والأهالي المسيحيون هم الذين تكفّلوا بإعمار منازلهم التي كانت مسلوبة، بالإضافة إلى بعض الكنائس". وتشدّد أثير على أنّ "المسيحيين مكوّن عراقي لا يمكن أن يُعَدّ أقليّة. لكنّ الاضطهاد والعنف الدموي اللذَين تعرّضوا لهما منذ عام 2003 وحتى الآن، جعلاهم أقليّة. وهم يشعرون بأنّهم غير مؤثّرين في بلادهم، ولا قيمة لهم، وهذا ما دفع أسراً إلى هجرة الموصل في اتّجاه إقليم كردستان العراق أو أوروبا أو كندا".

أطفال عراقيون مسيحيون وأعلام العراق في الموصل (أسامة المقدوني/ الأناضول)
يتمسّك مسيحيون كثر بالموصل والعراق رغم كلّ التحديات (أسامة المقدوني/ الأناضول)

جزء من ذاكرة الموصل
وكان بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق والعالم، الكاردينال لويس ساكو، قد لفت في حديث سابق لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ السبب الرئيسي لاستمرار نزوح آلاف الأسر المسيحية من سهل نينوى وأنحاء أخرى في شمال العراق يعود إلى هيمنة الجماعات المسلحة وغياب الإعمار في تلك المناطق، محذّراً من أنّ تلك المليشيات والعصابات "تمثّل خطراً على المجتمع العراقي ككلّ، وعلى المسيحيين بصفتهم أقليّة". وإذ أكّد ساكو أنّ "الحكومات العراقية لم تسعف المسيحيين بإعمار مدنهم وكنائسهم كما ينبغي"، رأى أنّه يجب على "الحكومة والمنظمات الدولية تقديم المساعدات لإعادة إعمار البلدات المسيحية".
من جهته، يقول عضو مجلس محافظة نينوى، أضحوي الصعيب، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المسيحيين جزء مهمّ من ذاكرة الموصل، ولا يمكن تخيّل نينوى من دون مسيحيين. لذلك، كان لا بدّ للحكومة العراقية من الاهتمام ببناء الكنائس والمدارس والبيوت الخاصة بهم، وعدم توفير الفرص التي تدفعهم إلى مغادرة المدينة لأنّها أرض العراقيين". ويبيّن أنّ "حال المسيحيين لا تختلف عن حال سواهم من العراقيين، إذ ثمّة مشكلات كثيرة من قبيل الصراعات السياسية والأزمات الاجتماعية وعدم الاهتمام بالمدن المحرّرة وإعانة المتضررين، بالتالي فإنّ ذلك كلّه يدفع العراقيين إلى الهجرة واختيار مدن أخرى بديلة توفّر لهم الحياة الكريمة". ويؤكّد الصعيب أنّ "بالفعل، ثمّة أسراً مسيحية عادت إلى الموصل بعد تحريرها من داعش، قبل أن تخرج منها مرّة أخرى بسبب الإهمال الذي تتعرّض له هذه المدينة والدمار الذي طاولها".
وقد شهد العراق تراجعاً كبيراً في أعداد المسيحيين، بحسب ما يوضح عضو مجلس النواب العراقي، يونادم كنا، شارحاً أنّهم "بعدما كان عددهم يتخطّى مليوناً ونصف مليون عراقي، فإنّهم لا يزيدون حالياً على 400 ألف ويتوزّعون ما بين المناطق الخاصة لسلطة بغداد ومناطق إقليم كردستان العراق. يضيف كنا لـ"العربي الجديد" أنّ "الوضع الاقتصادي وكذلك الوضع الأمني المترديَّين في المناطق حيث يعيش المسيحيون، عدا إقليم كردستان العراق، يجعلانهم يفكّرون جدياً في الهجرة. وقد هاجر كثيرون منهم واستقرّوا في الإقليم، ومنهم من تقدّم بطلبات للحصول على لجوء إنساني في دول أوروبية وفي الولايات المتحدة الأميركية وكندا".
تجدر الإشارة إلى أنّ البابا فرنسيس زار العراق في مارس/ آذار 2021، ولاقت زيارته ترحيباً شعبياً واضحاً في البلاد، وقد تنقّل ما بين بغداد والنجف (وسط) وذي قار (جنوب) وأربيل (شمال) بالإضافة إلى الموصل وسهل نينوى في محافظة نينوى المنكوبة (شمال). وقد أسهمت الزيارة في لفت الانتباه إلى الثراء والتنوّع في المجتمع العراقي، إلى جانب تسليط الضوء على ما يعانيه المسيحيون في البلاد كما غيرهم من مكوّنات الشعب العراقي. وكان أمل المسيحيين أن تستغلّ الحكومة العراقية هذه الزيارة لإنقاذ أوضاعهم في البلاد، إلا أنّ أيّ تطوّر لم يحدث.

البابا فرنسيس وسط الدمار في الموصل في العراق (فينتشنزو بينتو/ فرانس برس)
البابا فرنسيس يصلّي وسط الدمار في الموصل (فينتشنزو بينتو/ فرانس برس)

كنائس ما زالت مطمورة
في سياق متصل، يقول الباحث والناشط من الموصل محمود النجار لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة 700 أسرة مسيحية تقريباً تتوزّع ما بين الموصل وأربيل ودهوك. وقد عادت بعد عمليات تحرير الموصل نحو 300 أسرة إلى مناطق سهل نينوى وأحياء المدينة القديمة، وهذه الأسر تعيش حياة صعبة، لأنّ منازلها وبساتينها وأرزاقها تسيطر عليها الفصائل المسلحة التي أمسكت بالأرض بعد عام 2017".
يضيف النجار أنّ "منظمات مثل يونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) رمّمت بعض الكنائس، فيما أهّلت غيرها بعضاً آخر. وثمّة أموال تصل إلى الموصل من متبرّعين من خارج المدينة، لكنّ ثمّة كنائس في الواقع ما زالت مطمورة تحت الأنقاض، من بينها كنيسة الساعة التي تُعَد أقدم كنائس الموصل".
وعن الدعم الحكومي للمسيحيين وكنائسهم في الموصل، يؤكد النجار أنّ "الحكومة لم تدعم الكنائس ولا المسيحيين، والحال نفسها مع الجوامع والمساجد والأديرة والمعابد. والسلطات تتذرّع بعدم توافر الغطاء المالي لمثل هذا الدعم"، لافتاً إلى أنّ "الموصل بالأصل آشورية، وهي مدينة مدنيّة ترفض كلّ الخطابات المتطرّفة والإرهابية، ولا تقبل بالنزاعات. وعلى الرغم من أنّ تراجعاً سُجّل في السنوات الأخيرة في وجود مكوّنات أصيلة بالمدينة، مثل المسيحيين والأكراد والأيزيديين، فإنّهم يمثّلون روح المدينة وجذورها، وبالتالي لن يختفوا منها".

يُذكر أنّ السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق (2003) شهدت حملات هجرة واسعة لمسيحيي العراق الذين توجّهوا إلى دول مختلفة بسبب عمليات التنظيمات الإرهابية وجرائم الاستهداف والتضييق التي شاركت فيها مليشيات مسلحة. ويُقدَّر عدد هؤلاء الذين غادروا البلاد بعد ذلك العام بأكثر من مليون مواطن. وتطالب قوى وجهات مسيحية فاعلة في العراق حالياً بإخراج الفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق عدّة في سهل نينوى، إذ إنّ وجودها عامل عدم استقرار، ولا يشجّع على عودة أهل المناطق إليها، وهم من الأغلبية المسيحية.

المساهمون