تتعاظم مخاوف المواطنين السودانيين من النظام الصحي المتهالك في بلادهم، في الفترة الأخيرة، خصوصاً في وضع صحي عالمي خطير عنوانه فيروس كورونا الجديد. تلك المخاوف تسللت إلى نفوس كثيرين، مثل زروق الخالدي، الذي حجز لولادة زوجته قبل فترة في أحد المستشفيات الحكومية، لكنّه تراجع بعد تفقده المستشفى ومشاهدته الأوضاع الصحية العامة ومدى تدهورها، وعدم توفر حضانة احتياطية يمكن أن تساعد مولوده في حال واجهته مصاعب ما بعد الولادة. يقول الخالدي لـ"العربي الجديد" إنّه اتخذ قراره السريع بالحجز لزوجته في مستشفى خاص، ما كلفه 50 ألف جنيه سوداني (نحو 1000 دولار) وفرها من هنا وهناك، بالرغم من أنّها تساوي أكثر من راتبه السنوي.
ولا تقتصر المخاوف على المواطنين، لكنّ جمعيات ونقابات طبية حذّرت أيضاً من مستقبل النظام الصحي، مثل لجنة الأطباء المركزية، التي أصدرت بياناً أخيراً، نبهت فيه أولاً إلى تركة النظام السابق في قطاع الصحة والتي ظهرت في هجرة الأطباء والكفاءات العلمية وتدمير المستشفيات العامة، وخصخصة الخدمات الصحية، وغياب الخطط والدراسات الصحية، مشيرة إلى أنّ الوضع ساء أكثر نتيجة انتشار كورونا.
ونبهت اللجنة من الظروف القاسية التي يعاني منها الأطباء والكوادر الصحية، سواء في مشاكل السكن، أو المعيشة والترحيل وعدم صرف الاستحقاقات المالية لأشهر، ما أثر بصورة مباشرة على استقرار العمل في مراكز العزل وعيادات التشخيص وفي المستشفيات، وأدى ذلك بدوره إلى خروج عدد من المراكز عن تقديم خدماته، مع إمكانية خروج مراكز عزل أكثر في ولاية الخرطوم، وخروج أغلب المستشفيات عن تقديم خدمات الطوارئ.
لا يتوفر في كلّ أنحاء السودان إلاّ ما بين 380 و400 اختصاصي تخدير
وقالت اللجنة إنّ "كلّ ذلك حدث من دون أن نرى تحركاً ملموساً من الجهات الحكومية يوازي حجم الكارثة"، وحملت اللجنة في بيانها المسؤولية كاملة للدولة التي ذكرت أنّها تتحرك ببطء في ذلك الملف الحساس. ويرى الخبير في مجال الصحة، الدكتور سيد قنات، أنّ الظروف الاقتصادية التي تشهدها البلاد ستلقي بظلال سلبية على النظام الصحي المتهالك في الأصل، بالإضافة إلى الوبائيات التي امتدت طوال العام، بداية من تفشي الكوليرا في ولاية النيل الأزرق وصولاً إلى كورونا، ما خلق أعباء إضافية على الخدمات الصحية.
يضيف قنات لـ"العربي الجديد" أنّ المطلوب وضع رؤية واضحة لعلاج المشاكل في النظام الصحي، مع تصنيف الدولة بند الصحة كأول بند من أولوياتها. ويشدد أنّ المشكلة الرئيسة في النظام الصحي في السودان هي غياب مراكز الرعاية الأولية في المناطق الريفية، كما في أطراف ولاية الخرطوم، وما لم تهتم الدولة بتجهيز تلك المراكز على مستوى الولايات والمحليات، فإنّ المشكلة لن تحلّ أبداً مع اكتظاظ مستشفيات الخرطوم بالمرضى، مطالباً بتوفير مركز صحي في كلّ خمسة كيلومترات، مع عدم نقل المرضى إلى الخرطوم والمدن الكبرى إلاّ في حالات الطوارئ القصوى والعمليات الدقيقة.
يشير قنات إلى مشكلة أخرى تتعلق بنقص الكوادر الطبية مستشهداً باختصاصي التخدير، على سبيل المثال، إذ لا يتوفر في كلّ أنحاء السودان إلاّ ما بين 380 و400 اختصاصي تخدير، بينما هاجرت البقية إلى دول الخليج العربي وغيرها في السنوات الماضية، بحثاً عن فرص عمل أفضل. يتابع أنّه قبل خمس سنوات لم يكن في ولاية شمال دارفور سوى طبيب أسنان واحد. كذلك، يشدد على ضرورة بروز دور أكبر لكليات الطب في كلّ الولايات السودانية، إذ يتوجب على أيّ كلية طبية أن تنشئ مستشفى تعليمياً بما يخدم طلابها ويعطيهم فرصة التدريب العملي في مسار تكوينهم المهني، ويخدم في الوقت نفسه أهالي المناطق التي توجد فيها تلك الكليات. ويشدد كذلك على تحسين شروط التأمين الصحي وتوسيع مظلته.
من جهته، يعتبر الدكتور هيثم مكاوي، أنّ غياب الخطط الاستراتيجية هو العامل الأساس الذي تسبب في كلّ المشاكل للقطاع الصحي، وسيؤدي إلى انهياره قريباً إذا لم تتدارك الدولة الأمر، وتضع الدولة خطة واضحة لإنقاذه مبيناً أنّ النظام يفتقر كذلك إلى غياب المعلومات الأساسية الحقيقية عن الوضع الصحي وكلّ ما يُنفذ الآن هو برنامج فقط للطوارئ.
كذلك، يعاني النظام الصحي، بحسب ما يقول مكاوي لـ"العربي الجديد" من بيروقراطية وتقاطع مصالح وترهل إداري ولا مركزية قابضة مشتتة لتتخذ كلّ وزارة صحة سياسات بمعزل عن الولايات الأخرى. ويوضح أنّ كلّ المستشفيات الحكومية ينقصها التخطيط وضعف الكوادر الطبية، إذ أوقفت وزارة الصحة التعيين منذ فترة، وتعتمد كلياً على أطباء الامتياز والمتدربين وعلى التعاقد الخاص، وكلّهم يعملون في أسوأ ظروف ممكنة، عدا عن فقدان الدواء في الصيدليات التابعة للمستشفيات. ويلفت إلى أنّ المواطن وحده هو الذي يدفع ثمن تردي الخدمات الصحية، مشيراً إلى أنّ كلّ شيء تدهور بشكل كبير مع فيروس كورونا الجديد الذي ضرب البلاد، إذ خرج كثير من المستشفيات عن الخدمة تماماً. ويقول مكاوي إنّ الحلّ الأساسي للنظام الصحي يتمثل في عقد مؤتمر عام يشارك فيه الأطباء والمسؤولون وهيئة التأمين الصحي لوضع خطة متكاملة للإصلاح.
وتبدو الأوضاع أكثر سوءاً في المستشفيات الريفية، بحسب كثير من الشهادات، ومنها شهادة الدكتور محمد يوسف سعيد، الذي يعمل في مستشفى مدينة المناقل، وسط السودان، إذ جزم بانهيارالنظام الصحي من دون أن تمتلك السلطات القدرة على الاعتراف بذلك. ويوضح سعيد لـ"العربي الجديد" أنّ المستشفى الذي يعمل فيه لا يوفر حتى المحاليل الوريدية والأمصال كأبسط ما يكون من أنواع الأدوية المنقذة للحياة.
يضيف أنّ المستشفى يفتقر كذلك إلى معينات أخرى، منها عدم توفر غرفة العناية المكثفة التي يحتاجها أكثر مرضى الذبحات الصدرية إذ كلّما تأخر الزمن الذهبي (الحاسم) لإنقاذ المريض وقعت مضاعفات قد تؤدي إلى الوفاة. يتابع أنّ المستشفى يقدم خدماته لعشرات القرى، بالإضافة إلى المدينة نفسها، أي إنّ أكثر من مليون نسمة يقصدون مستشفى واحداً، ففي المدينة وجوارها ليس هناك غيره، بالإضافة إلى عدد قليل من المراكز الصحية.
قبل خمس سنوات لم يكن في ولاية شمال دارفور سوى طبيب أسنان واحد
يتابع سعيد حديثه عن ندرة الأدوية وشحها مع قلة الكوادر العاملة، مشيراً إلى أنّ في المستشفى خمسة نواب (مساعدين) اختصاصيين فقط، بغياب أي طبيب صحة عامة، لافتاً إلى أنّ قلة الكوادر أدت إلى إنهاك الأطباء، خصوصاً النواب وأنّ ثلاثة منهم توفوا على مستوى السودان نتيجة للإرهاق والعمل لمدة 24 ساعة يومياً، في وقت يشير فيه إلى أنّ نائب الاختصاصي يدفع للمجلس الطبي للتخصصات أموالاً مقابل تدريبه في المستشفيات التي لا تدفع له إلاّ 1800 جنيه (32.50 دولاراً) شهرياً فقط، ويؤكد أنّ "كلّ ما يحدث في القطاع الصحي عبارة عن مهزلة، وللأسف الشديد يحدث ذلك بعد ثورة تغيير على مستوى البلاد دفع الشباب في سبيلها دماءهم".
أما محمد نقد الله، مديرالمستشفى الأكاديمي بالخرطوم، فيرى أنّ المشكلة الكبرى المرتبطة بالنظام الصحي، هي ضعف التمويل الذي تقدمه الدولة للمستشفيات مع ارتفاع كلفة التشغيل، مستدلاً بفحص واحد يُكلف 400 جنيه (7.24 دولارات) لكنّ المستشفيات لا تأخذ من المريض سوى 200 جنيه (3.62 دولارات) فقط، من غير أن يكون للمستشفى مورد مالي آخر لتغطية ذلك العجز. يتابع نقد الله في حديثه إلى "العربي الجديد" أنّ الكوادر الطبية على قلتها تواجه أزمات مالية حقيقية، ولا تتوزاى المبالغ التي تقدم لأفرادها مع العمل الذي تبذله، موضحاً أنّ الدولة زادت الرواتب في الأشهر الماضية، لكنّ معظم الكوادر الطبية لا تشملها تلك الزيادات لأنّها غير معينة وغير مُضمّنة في هيكل الرواتب.
ويقترح نقد الله، توسيع مظلة التأمين الصحي وقيام مؤسسات تابعة للتأمين الصحي، وتحسين البني التحتية في المستشفيات وإعادة العمل بنظام التعيين فيها بما يشمل مختلف الاختصاصات، إذ يشمل ذلك تعيين الأطباء والمهندسين والعمال والكوادر الإدارية. وبالرغم من ذلك، لا يتفق محمد نقد الله في القول بفرضية انهيار النظام الصحي، إنّما المطلوب إصلاحات حقيقية وتغطية كلّ مناطق السودان في الخدمات الصحية والبحث عن تمويل دولي من المنظمات الدولية المتخصصة.