شهد العالم الشهر الماضي أكثر أشهر أكتوبر/ تشرين الأول دفئاً على الإطلاق، لتتواصل بذلك سلسلة الأرقام القياسية الشهرية في الحرارة منذ يونيو/ حزيران 2023، بحسب ما أعلن مرصد كوبرنيكوس للمناخ التابع للاتحاد الأوروبي، اليوم الأربعاء.
وأفادت نائبة رئيس خدمة تغيّر المناخ في مرصد كوبرنيكوس سامانثا بورغيس، في بيان، بأنّه "عندما نقارن بياناتنا بتلك الخاصة بالهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، يمكننا القول إنّ هذا هو العام الأكثر دفئاً في خلال 125 ألف عام".
ومن شأن منحى الاحترار المتعاظم، الذي يُترجم بموجات جفاف تترافق مع مجاعات أو حرائق مدمّرة أو أعاصير، أن يعزّز تحذيرات العلماء التي سوف يتردّد صداها بقوة في مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ الثامن والعشرين (كوب 28) الذي تستضيفه مدينة دبي ما بين 30 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري و12 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وقالت بورغيس إنّ "الشعور بأنّ ثمّة حاجة ملحّة إلى اتخاذ إجراءات مناخية طموحة في الفترة التي تسبق مؤتمر كوب 28 بات أقوى من أيّ وقت مضى".
ومع متوسط حرارة بلغ 15.38 درجة مئوية على سطح الكرة الأرضية، تخطّى الشهر الماضي الرقم القياسي السابق المسجّل في أكتوبر 2019 بمقدار 0.4 درجة مئوية، بحسب مرصد كوبرنيكوس. ويُعَدّ هذا الوضع "استثنائياً" بالنسبة إلى درجات الحرارة العالمية.
ولفت المرصد إلى أنّ أكتوبر 2023 أتى "أكثر دفئاً بمقدار 1.7 درجة مئوية مقارنة بمعدلات أكتوبر في الفترة الممتدة ما بين 1850 و1900"، أي قبل تأثير انبعاثات غازات الدفيئة التي تتسبّب فيها البشرية.
ومنذ يناير/كانون الثاني الماضي، سجّل العالم معدّلات لدرجات الحرارة هي الأكثر دفئاً على الإطلاق في الأشهر العشرة الأولى من عام 2023، وذلك مع 1.43 درجة مئوية فوق معدّل الحرارة بين الأعوام 1850 إلى 1900، بحسب المرصد الأوروبي.
من جهتها، قدّرت الوكالة الأميركية لمراقبة المحيطات والغلاف الجوي أن يكون عام 2023 الأكثر دفئاً، وهي كانت قد طرحت في أكتوبر الماضي احتمال تسجيل عام قياسي بنسبة تزيد عن 99 في المائة.
وفي الإطار نفسه، رأى الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية بيتيري تالاس أنّ "العام المقبل قد يكون أكثر دفئاً. ويرجع ذلك بوضوح وبصورة لا لبس فيها إلى مساهمة زيادة تركيزات غازات الدفيئة المسبّبة للاحترار المناخي الناجمة عن الأنشطة البشرية".
وحذّر تالاس من أنّ "الظواهر المتطرّفة مثل موجات الحرّ والجفاف وحرائق الغابات والأمطار الغزيرة والفيضانات سوف تكون أكثر تواتراً في بعض المناطق، وسوف تكون لها تأثيرات كبيرة".
"الأرض تحت الحصار"
وأكثر من أيّ وقت مضى، يقترب عام 2023 من الحدّ الرمزي للاحترار (+1.5 درجة مئوية مقارنة بمعدّلات ما قبل الثورة الصناعية) الذي حدّدته اتفاقية باريس للمناخ (2-15) والتي من المتوقّع أن يجري مؤتمر الأطراف الثامن والعشرون التقييم الرسمي الأوّل له، وكذلك الإجراء التصحيحي الأوّل إذا أمكن.
وتوقّعت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في الربيع أن يتجاوز العالم هذه العتبة للمرّة الأولى، على أساس سنوي في الأعوام الخمسة المقبلة.
وعلى الرغم من ذلك، سوف يكون من الضروري قياس معدل احترار بـ1.5 درجة مئوية في المتوسط على مدى أعوام، حتى يُسلَّم بأنّ العالم بلغ هذه العتبة رسمياً من وجهة نظر مناخية. وتتوقّع الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، التي تجمع خبراء مناخيين مفوّضين من الأمم المتحدة، بنسبة 50 في المائة، أن يتمّ بلوغ هذا المستوى ابتداءً من 2030-2035، مع الأخذ في الاعتبار معدّل انبعاثات غازات الدفيئة، خصوصاً تلك المتأتية من الوقود الأحفوري.
ويُعَدّ المناخ الحالي أكثر دفئاً بنحو 1.2 درجة مئوية مقارنة بالفترة الممتدة ما بين 1850 و1900.
وتعود أولى سجلات الحرارة لدى مرصد كوبرنيكوس إلى عام 1940، لكن من الممكن مقارنتها بمناخات آلاف الأعوام الماضية، والتي حُدّدت باستخدام حلقات أشجار أو عيّنات جليد جوفية. وبحسب هذه البيانات، من المرجّح أن تكون درجات الحرارة الحالية الأكثر دفئاً منذ أكثر من 100 ألف عام.
وقد حذّرت مجموعة من العلماء البارزين في نهاية أكتوبر الماضي، في تقرير مثير للقلق، من أنّ "الحياة على كوكب الأرض صارت تحت الحصار"، مشيرة إلى "مواضع تقدّم دنيا" تُحرزها البشرية في مجال الحدّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وبيّنت بورغيس أنّه "وفقاً للتاريخ، امتصّت المحيطات ما يصل إلى 90 في المائة من الحرارة الزائدة الناجمة عن تغيّر المناخ. وفي خضمّ ظاهرة إل نينيو، وهي دورة مناخية طبيعية تؤدّي إلى ارتفاع درجة حرارة أجزاء من المحيط بشكل مؤقّت وإلى تغيّرات في الطقس في كلّ أنحاء العالم، نستطيع توقّع مزيد من الاحترار في الأشهر المقبلة".
ظواهر متطرّفة
ويراقب العلماء تغيّر المناخ لفهم كيفية تطوّر كوكب الأرض نتيجة انبعاثات غازات الدفيئة التي هي من صنع الإنسان. ويقول نائب رئيس مختبرات "غلوبال فيوتشرز" التابعة لجامعة ولاية أريزونا بيتر شلوسر إنّ كوكباً أكثر دفئاً يعني وقوع مزيد من الظواهر المتطرّفة من قبيل الجفاف الشديد والأعاصير.
يضيف شلوسر أنّ "هذه علامة واضحة على أنّنا مقبلون على نظام مناخي أكثر ضرراً على عدد أكبر من البشر. ومن الأفضل لنا أخذ هذا التحذير على محمل الجدّ"، مشيراً إلى أنّه "كان من المفترض أن نأخذه على محمل الجدّ قبل 50 عاماً أو أكثر ونستخلص النتائج الصحيحة".
ومع تفاقم تغيّر المناخ، سُجّلت ظواهر متطرّفة هذا العام، من قبيل الفيضانات التي أودت بحياة آلاف الأشخاص في ليبيا على أثر العاصفة المتوسطية "دانيال"، وموجات الحرّ الشديدة في أميركا الجنوبية، بالإضافة إلى أسوأ موسم حرائق غابات تشهده كندا على الإطلاق.
ويرى عالم المناخ في "جامعة ليدز" البريطانية بيرس فورستر "وجوب ألا نسمح بأن تكون الفيضانات المدمّرة وحرائق الغابات والعواصف وموجات الحرّ التي شهدناها هذا العام هي الوضع الطبيعي الجديد". يضيف أنّ "من خلال تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العقد المقبل على نحو سريع، يمكننا تخفيض معدّل ارتفاع درجة الحرارة إلى النصف".
وعلى الرغم من أنّ البلدان تضع أهدافاً طموحة، بصورة متزايدة، لتخفيض الانبعاثات تدريجياً، فإنّ ذلك لم يحدث حتى الآن. وقد وصلت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية إلى مستوى قياسي في عام 2022.
ظاهرة "إل نينيو" المناخية مستمرة حتى ربيع 2024
وكما كانت الحال في عام 2016، وهو العام الأكثر دفئاً في السجلات حتى اليوم، تُضاف ظاهرة "إل نينيو" إلى العوامل المؤثّرة على صعيد تغيّر المناخ في عام 2023، متسبّبة في ارتفاع معدّلات الحرارة. وتبلغ هذه الظاهرة الدورية فوق المحيط الهادئ ذروتها عموماً في الأيام الأخيرة من العام.
وتستمرّ الظاهرة في التطوّر "على الرغم من أنّ الاختلالات ما زالت أقلّ من تلك التي تمّ تسجيلها في مثل هذا الوقت من العام" في 1997 و2015، عندما كانت ظاهرة "إل نينيو" في مستويات تاريخية بشدّتها، بحسب بيانات مرصد كوبرنيكوس.
وعلى مستوى القارات المختلفة، ضرب الجفاف في أكتوبر الماضي مناطق من الولايات المتحدة والمكسيك، في حين شهدت مناطق واسعة من الكوكب ظروفاً أكثر رطوبة من المعتاد، وكانت في الغالب مرتبطة بالعواصف والأعاصير.
ويؤدّي ارتفاع درجة حرارة المحيطات دوراً رئيسياً في هذه المعدلات القياسية.
وقد حطّمت درجات حرارة سطح البحر الأرقام القياسية في كلّ شهر منذ إبريل/ نيسان الماضي، بما في ذلك أكتوبر الماضي، بمتوسط 20.79 درجة مئوية.
ويؤدّي هذا الارتفاع إلى زيادة شدّة العواصف، ومزيد من المياه المتبخّرة. كذلك يسرّع ارتفاع الحرارة ذوبان الكتل الجليدية العائمة في غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، وهو أمر بالغ الأهمية للاحتفاظ بالمياه العذبة من الأنهر الجليدية ومنع الارتفاع الهائل في مستوى سطح البحر.
ويظلّ الجليد البحري في القطب الجنوبي للشهر السادس على التوالي عند مستوى قياسي منخفض لهذا الموسم، أي أقلّ بنسبة 11 في المائة من المتوسط، بحسب مرصد كوبرنيكوس. وفي القطب الشمالي، سجّل أكتوبر سابع حدّ أدنى شهري على صعيد كتل الجليد التي كانت أقلّ بنسبة 12 في المائة من المعدّلات.
وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت، أمس الثلاثاء، أنّ ظاهرة "إل نينيو" المناخية سوف تستمرّ في خلال فصلَي الشتاء والربيع المقبلَين، متوقّعة ارتفاع درجات الحرارة أكثر في عام 2024.
وبحسب نشرة المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، الصادرة أمس الثلاثاء، فإنّ احتمال استمرار الظاهرة الدورية فوق المحيط الهادئ حتى إبريل 2024 يبلغ 90 في المائة. ومن المرجّح كذلك أن تصل ظاهرة "إل نينيو" في خلال مرحلة الذروة إلى "شدّة عالية".
تضيف المنظمة أنّ في سبتمبر الماضي، "أظهرت درجات الحرارة السطحية في وسط المحيط الهادئ الاستوائي الشرقي مستويات شبيهة بتلك المسجلة عندما تكون شدّة ظاهرة إل نينيو معتدلة"، مشيرة إلى "درجات حرارة تحت سطح شرق المحيط الهادئ الاستوائي أعلى بكثير من المتوسط".
وقد "دعم هذا المحتوى الحراري الأعلى من المعتاد زيادات مطردة في درجات حرارة سطح البحر في خلال الأشهر الأربعة الماضية، ومن المتوقّع أن يؤدّي إلى زيادات أخرى (وإن كانت أصغر) في درجات الحرارة هذه في الأشهر المقبلة، اعتماداً على شدّة التقلبات بين الغلاف الجوي والمحيطات وطبيعتها"، بحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية.
ويرى خبراء أنّه "مع الأخذ في الاعتبار تطوّر الحلقات الدافئة الماضية بالإضافة إلى أحدث التوقعات طويلة المدى"، فإنّ التراجع التدريجي لظاهرة "إل نينيو" متوقَّع حدوثه في ربيع شمال الكرة الأرضية من عام 2024، في حين أنّ احتمال حدوث تأثير تبريد مرتبط بظاهرة "لا نينيا" شبه معدوم.
(فرانس برس، أسوشييتد برس، رويترز)