قبل ستين عاماً، وصل إلى ميناء مدينة مرسيليا، ثانية كبرى مدن فرنسا، آلاف العمّال الجزائريين، ثمّ العمال الفرنسيين العائدين من الجزائر بعد استقلالها (1962)، فكثرت في المدينة القصص الفرنسية الجزائرية التي تأتي في أحيان كثيرة مؤلمة.
تقول سامية شباني، مديرة مركز "أنكراج" (Ancrages) - ترجمتها مراسي - المتخصّص في الأبحاث حول تاريخ الهجرة وذاكرتها في مرسيليا (جنوب)، إنّ التقديرات "تشير إلى أنّ من بين أكثر من 800 ألف من سكان المدينة، ثمّة 200 ألف تقريباً معنيّون بشكل مباشر أو غير مباشر بالجزائر".
ومن بين هؤلاء "الأقدام السوداء"، وهم الأوروبيون المتحدّرون من فرنسا أو إسبانيا أو إيطاليا الذين عاشوا في الجزائر لأجيال عدّة، وتمّ ترحيلهم، بعد حرب التحرير الجزائرية.
كذلك، من بين سكان المدينة، الحركيّون، وهم الجزائريون الذين قاتلوا في صفوف جيش الاستعمار الفرنسي، وأبناء مرسيليا الذين قاتلوا في الجزائر، ومهاجرون جزائريون بعضهم ناضل ضدّ الاستعمار من أجل الاستقلال، وأحفاد كلّ هؤلاء. وقد شهدت الأحياء الكبرى في مرسيليا التي بُنيت على عجل في ستينيات القرن الماضي، مرور بعض هؤلاء السكان المتأرجحين بين البلدَين. إلى هؤلاء، ثمّة جزائريون فارون من "العشريّة السوداء" (1992 - 2002) أو طلاب وغيرهم.
وفي كلّ أسبوع، تُذكّر بواخر المسافرين البيضاء التي تربط مرسيليا بالجزائر العاصمة، بالروابط التي ما زالت قوية بين المدينتَين المطلّتَين على البحر الأبيض المتوسط. وتقول المؤرخة كريمة ديرش، المتخصصة في شؤون الجزائر في المركز الوطني للبحوث العلمية بفرنسا، إنّه عندما يتعلّق الأمر بإثارة حرب الجزائر وأكثر من 130 عاماً من الاستعمار، تظلّ الذكريات "مجزّأة الى فئات".
وفي هذه المدينة نصب تذكاري للمرحَّلين، غير أنّ لا نصب تذكارياً يخلق إجماعاً بين الذاكرات الجريحة. مع ذلك، ثمّة من يعمل في مرسيليا على خلق حوار بين القصص التاريخية المتعدّدة. من هؤلاء جاك برادل، رئيس الجمعية الوطنية للأقدام السوداء التقدميين، التي تُحيي في كل عام ذكرى "اتفاقيات إيفيان" (وُقّعت على أثر مفاوضات طويلة بين الجزائر وفرنسا لإنهاء الاستعمار الذي دام من عام 1830 إلى عام 1962)، بالمشاركة مع جمعية "أنكراج" وجمعيات الشتات الجزائري، والمناهضة للعنصرية. وهي خطوة غير عادية، بما أنّ كثيرين من "الأقدام السوداء" يرفضون إحياء ذكرى هذه الاتفاقيات التي يعدّونها فترة مظلمة في حياتهم.
ويخبر جاك برادل أنّه وُلد في تيارت، شمال غربيّ الجزائر، ونشأ في "عائلة من المستوطنين الفرنسيين وسط بيئة تتمتّع بامتيازات"، علماً أنّ جدّه الذي وصل في القرن التاسع عشر إلى الجزائر كان "فلاحاً صغيراً من إقليم تارن (منطقة أوكسيتاني بالجنوب الفرنسي) وقد انتقل إلى الجزائر هرباً من البؤس". ويقول برادل (متقاعد) لوكالة "فرانس برس": "بما أنّ والدَيّ كانا مناهضَين متشدّدَين للعنصرية، فقد ساعدني ذلك على أن أفتح عينَيّ على الواقع"، واقع النظام الاستعماري. ولمّا بلغ 18 عاماً، غادر إلى فرنسا لتجنّب إلحاقه بالقوة بـ"منظمة الجيش السري" التي كانت تقاتل ضدّ استقلال الجزائر. ثمّ لحق به والداه.
وعلى الرغم من الجراح والمنفى وفقدان صديق الطفولة الجزائري الذي ابتعد عنه في أثناء الحرب، يناضل برادل من أجل مصالحة "صادقة ودائمة" بين البلدَين. وتزخر مكتبته بالكتب التي تتناول الجزائر، من بينها عدد كبير لمؤلفين جزائريين معاصرين. بالنسبة إليه، تمرّ المصالحة من خلال نشر "العمل الهائل للمؤرّخين" في المجتمع، مشيراً إلى أنّه يؤيّد إقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنّ الاستعمار كان "همجية حقيقية".
وتروي جمعية "أنكراج" قصصاً منسيّة في الغالب، عن جزائريين في مرسيليا، مثل أولئك العمّال الذين وُظّفوا بكثافة في مصانع المنطقة، فأعادوا بناء حياتهم في شوارع حيّ بيلسونس الضيقة. وتتحدّث شباني لـ"فرانس برس" عن "مقهى شمال أفريقيا الذي كان يشكّل مكاناً للتواصل الاجتماعي والتعبير الموسيقي، والذي كانت تُنظَّم فيه كذلك تظاهرات مطالبة بالاستقلال"، داعمة كلامها بالإشارة إلى واجهة المحلّ المقفل اليوم. تضيف شيباني أنّه في خلال الحرب، كانت "هذه المقاهي تخضع للرقابة الشديدة من الشرطة الفرنسية واعتُقل منها بعض المهاجرين".
وقد نفّذت المخرجة فاطمة سيساني المقيمة في مرسيليا، فيلماً وثائقياً عن النساء اللواتي انخرطنَ في جبهة التحرير الوطني، من أجل فهم تاريخ حربٍ رَفَضَ والداها المهاجران إلى فرنسا الحديث عنها.
وفي مايو/ أيار 2021، أطلقت مرسيليا اسم "أحمد ليتيم"، جندي جزائري شارك في تحرير المدينة من النازيين في عام 1944، على مدرسة كانت تحمل سابقاً اسم "توما روبير بوجو"، أحد قادة الحملة الاستعمارية. يُذكر أنّه حتى اليوم، لا أثر لأيّ لافتة بالاسم الجديد على واجهة المدرسة. وكان رئيس البلدية بونوا بايان، قد دافع عن هذا التغيير، قائلاً: "لا يمكن المدرسة أن تمجّد جلاّداً في الحروب الاستعمارية. لا يمكننا تفسير ذلك أو تبريره لأطفالنا".
في سياق متّصل، كان لفضيلة، ابنة مرسيليا، جدّ جزائري قاتل مع فرنسا في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وتعبّر عن رغبتها في أن تكون الروايات التاريخية معروفة بشكل أفضل. وقد رفضت ذكر اسم عائلتها، لأنّ "مسألة حرب الجزائر ما زالت حساسة"، لكنّها تأمل أن تلتئم الجراح في يوم ما، "لأنّ فرنسا والجزائر مرتبطتان".
(فرانس برس)