أكد إحصاء صادم نشرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" أن 6.9 ملايين طفل سوداني لا يذهبون إلى المدارس، ما يعني أن واحداً من كل ثلاثة أطفال في سن الدراسة في البلاد لا يتلقى التعليم، في حين أن 12 مليون طفل آخرين لا يتلقون تعليماً جيداً، والأسباب متعددة من بينها نقص المعلمين، وتردي البنية التحتية، داعية إلى توفير بيئة تمكّن الأطفال من التعلّم، وتجعلهم يحققون أحلامهم، ويظهرون إمكاناتهم الكامنة.
ولظاهرة التسرّب المدرسي تاريخ طويل في السودان، وأدى ذلك إلى انتشار الأمية بنسبة تزيد عن 30 في المائة من جملة عدد السكان البالغ نحو 40 مليون نسمة.
وتشير المنظمة الدولية في إحصائها إلى أن "المدرسة ليست ساحة لتعليم الصغار أبجديات القراءة والكتابة والرياضيات، لكنها مكان لتعلّم المهارات الاجتماعية، واللهو في بيئة آمنة، كما أنها تحمي الأطفال من المخاطر الجسدية المحيطة، ومن بينها سوء المعاملة، والتعرض للاستغلال، والتجنيد في صفوف الجماعات المسلحة، كما توفّر الدعم النفسي والاجتماعي، ما يجعلها منقذة لحياة الكثير من الأطفال".
الطفل بابكر (13 سنة) واحد من ملايين الأطفال السودانيين الذين لا يذهبون إلى المدرسة، ويقول إنه اكتفى بالدراسة حتى السنة الثالثة الابتدائية، ثم هجر المدرسة للعمل، وإنه يعمل حالياً في مهنة تنظيف السيارات لتوفير المال للمساعدة في إعالة أسرته التي فقدت عائلها في وقت مبكر.
يقول بابكر بصوت حزين، إنه يخرج من منزله مبكراً برفقة والدته، والتي تعمل في بيع الشاى بوسط العاصمة الخرطوم، بينما هو يبحث عن رزقه عبر تنظيف السيارات، مشيراً إلى أنه على استعداد كامل للعودة إلى المدرسة متى ما توفرت الظروف لذلك، وأنه يشعر بحزن شديد حينما يشاهد أقرانه ذاهبين إلى المدرسة بينما هو يعمل في الشارع، وقد وصلوا إلى المرحلة المتوسطة بينما هو لم يكمل تعليمه.
وتؤكد "يونيسف" أن ترك أطفال السودان مدارسهم نتاج طبيعي لتفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتكرار النزاعات، وإغلاق المدارس لفترات طويلة بسبب تفشي فيروس كورونا، مشددة على أن كل ذلك يقلص فرص عودة الفتيات والفتيان إلى المدارس مجدداً.
وتقول ممثلة "يونيسف" في السودان، مانديب أوبراين: "لا يمكن لأي بلد تحمل عبء عدم معرفة ثلث أطفاله الذين في سن الدراسة مبادئ القراءة والكتابة، أو الحساب والمهارات الرقمية، فالتعليم ليس مجرد حق، إنه أيضاً شريان حياة".
يعبر أستاذ علم الاجتماع بجامعة الخرطوم، تامر محمد أحمد، عن انزعاجه الشديد من تلك الأرقام المخيفة لتسرب التلاميذ من المدارس، والذي ينذر، حسب تقديره، بأخطار اجتماعية وثقافية ونفسية وأخلاقية ستظهر في المستقبل.
ويوضح محمد أحمد لـ"العربي الجديد"، أن "واحدة من انعكاسات عدم ذهاب الأطفال إلى المدارس هو الهجرة من الريف إلى المدينة، لأنه في الماضي كان القطاع الزراعي والرعوي التقليدي في الريف يستوعب الفاقد التعليمي، لكن مع تدهور القطاعين، لم يعد أمام غير المتعلمين سوى الهجرة إلى المدن الكبرى للعمل في وظائف هامشية، والخيار الثاني هو تعرّضهم للاستغلال بأشكال متعددة، بما في ذلك تجنيدهم ضمن المليشيات المسلحة، عدا عن تسبب التسرب من المدارس في انتشار البطالة، وتعاطي المخدرات، وغيرها من الأمراض المجتمعية التي تمثل جحيماً لأي مجتمع".
يضيف: "الدافع الأساسي وراء تلك الكارثة هو عدم قدرة الأسر المالية على توفير تكلفة دراسة أبنائها، وأنها تحتاج إلى انخراطهم في العمل من أجل المساعدة في توفير أساسيات المعيشة، وكل المجتمعات لديها وعي بأهمية التحصيل المدرسي، ولا مجال للحديث عن زيادة ذلك الوعي للهروب من حقيقة الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، والتي يمكن أن تسبب كوارث أخرى، كما أن المدارس الحكومية باتت لا تقدم تعليماً مجانياً، ولا حتى تعليماً جيداً، وارتفعت تكاليف المدارس الخاصة، وكل ذلك يساهم في زيادة معدلات التسرب المدرسي".
وشدد الأكاديمي السوداني على أن "الحل يكمن في وقف خصخصة التعليم، وتوفير الدولة ميزانيات أكبر للتعليم الحكومي المجاني، وسن قوانين تلزم الأهل بذهاب أبنائهم إلى المدارس، مع فرض عقوبات على المخالفين".
ويقول الخبير في مجال التعليم، مبارك عبد الرحيم صباحي، إن "عوامل عدة تكالبت على منظومة التعليم العام، وأفضت إلى هذه النتائج المفزعة، من بينها تدهور الحالة الاقتصادية، وانعكاساتها السالبة على الأنشطة الحياتية المختلفة، وإفرازات الحرب الأهلية، والنزاعات القبلية والإثنية، وعدم استقرار الأوضاع السياسية، وغياب سياسات واضحة تجاه ضعف ميزانيات التعليم".
ويوضح صباحي لـ"العربي الجديد" أن "الأسباب تشمل النقص الحاد في عدد المعلمين والمعلمات، وعزوف الرجال عن الانخراط في مهنة التعليم، وعدم توفر البيئة التربوية الصحيحة في معظم المدارس الحكومية، فضلاً عن عدم توفر البيئة المدرسية المناسبة، واكتظاظ الفصول، وضعف معينات الإدارات التربوية، وأجهزة التقويم والمتابعة، وعدم توفر البيانات والإحصاءات الصحيحة، وكل ذلك يتزامن مع الأعداد المتزايدة للمواليد، وعدم بناء مدارس جديدة لاستيعابهم، وإرهاق أولياء الأمور بالرسوم لتسيير أعمال المدارس. التعليم في السودان يسير نحو الخصخصة، ولا حل قريب ما لم تستقر الأوضاع السياسية، وتعود هيبة الدولة، ويجري توطين اللاجئين والنازحين".
ويؤكد الخبير في حقوق الطفل، ياسر سليم، أهمية زيادة الإنفاق على التعليم، وتطبيق المجانية، كما تنص الوثيقة الدستورية لعام 2019، وتفعيل قانون الطفل الذي ينص على إلزام الأسر بتعليم أبنائها، ويطالب في حديث لـ"العربي الجديد"، بإعادة مهمة تقديم خدمة التعليم إلى السلطات الاتحادية بدلاً من السلطات الولائية والمحلية، إذ إن "الاستثمار في التعليم هو استثمار في المستقبل، وأقترح تخصيص نسبة من عائدات صادرات الذهب والبترول لصالح التعليم".